الخميس، 20 ديسمبر 2018

انت....وأنا المغفلة / بقلم أ منية بن الإمام

أنت الأناني .........و أنا المغفلة

فتحت سيماء الباب فوجدته امامها ، هكذا بلا مقدمات و بلا مواعيد و بلا جرس إنذار. بان على وجهها الطفولي المفاجأة و لكنها إبتسمت و مدت يدها الصغيرة مصافحة ' أهلا ...أهلا يا مرحبا ، متى عدت ؟ لما لم تخبرني حتى على الهاتف برسالة قصيرة؟" . نظر أحمد إليها بعيون تقطر حنا و عصر تلك اليد الرقيقة بكلتا يديه و سجنها عنده : " عودتي كانت مفاجئة لي أيضا ، لذا لم تسمح لي الظروف بأن آتصل ." صمت قليلا و ترك يدها تفلت من قبضته و أردف : " أردت أيضا أن أفاجئك و أفاجأ نفسي بك "  " هل حصلت المفاجأة ؟"
كان سؤاله لا ينتظر أي إجابة فكل الإجابات كانت حاضرة بقوة.
منذ وطئت قدما سيماء هذه المدينة وهي تعرف أحمد و تعرف مقر عمله و تزوره بعض الأحيان ، اذ كانت تربطها بعائلته علاقة صداقة لم تكن متينة و لكنها كافية لأن تصمد طيلة هذه السنين.و كانت تلجأ اليه لدى اعتراضها أي مشكلة عابرة أو حتى عميقة و كانت طريقته في التفكير و إسداء النصح و الإستماع تشدها إليه إلى أن حصلت الكارثة و وجد أحمد نفسه وحيدا بعد ان فضلت زوجته الرحيل إلى الأبد. منذ تلك اللحظة انقلبت مشاعر سيماء تجاه أحمد.... صارت تبحث عنه أكثر و تهتم به و باأدق تفاصيل حياته. تنظر إليه و تعطف على الحزن القابع بحدقتيه و تتمنى لو تفعل شيئا لترجع البسمة إلى شفاهه.
و سيماء تطير بمشاعرها و تجنح بصمت و لا يبان عليها اذ تسعى دوما على أن تكون صادقة بدون عراء لخفقاتها المتسارعة و خدومة بلا مظاهر الشفقة التي تحرجها و تحرج  أحمد معها.
قضت سيماء شتاء كاملا مع أفكارها و أوهامها و أحلامها و ترددها. هل تبوح لأحمد بما يختلج فؤادها؟ هل تصارحه بصدق مشاعرها؟ هل آن الأوان أم أنه لا يزال جريحا؟ هل يقبلها’ هل يتفهمها؟ ألن يكون فارق السن بينهما عائقا؟ و حالته الاجتماعية هل ستوافق عليها عائلتيهما ؟
تغوص عميقا في تخوفاتها ، و عندما تختنق تغلق على نفسها و تنزوي حتى تمر الأزمة بشبه بسلام لا يلبث أن يرحل ليخلف إعصارا بلياليها البيضاء. و ها هو الآن أمامها و قد كانت تظن أنه خارج البلاد ....ما اللٌذي أتى به؟ ما الأمر؟ أ يمكن أن يكون محمٌلا بخبر....؟
و أفاقت سيماء على يد أحمد تهزٌها برفق :" هيييه أين ذهبت و تركتني؟"
-أنا أتركك؟ هل تمزح؟ كنت فقط أتساءل سرٌ هلالك الٌذي هلُ على غير موعده؟
-" إشتقت إليك و إلى روحك المرحة، تصدًقين؟
تركت عاصمة الأنوار و بكلَ ضيائها و نجومها و نسائها و أتيت إليك آه يا شقية  كيف حالك؟؟؟
-مثل سائر الأيًام ، عمل و نوم و قلم و حبر ..... و أنت ؟"
إحتضن أحمد عينيها و خيل إليه أنه يرى لمعة حادة و رقيقة في آن واحد لكأنها عبرة تبحث عن طريق لتولد على وجنتيها اليسرى ، فأمتدت يده تمسح دليل ضعفها و قوة إحساسها و رفع ذقنها برفق و حمل حبه في صوته قائلا:
-سيماء ما بك عزيزتي؟ تبدين على غير عادتك ، أم هي طريقتك في إلإحتفاء بي بعد كلْ هذا الغياب؟ "
-"أنت لم ترحل و لم تغب عني حتى تعود " خرجت الكلمات و فضحت سيماء و جردتها من أسوارها ، فبدت إمرأة عاشقة و الخفر يضفي على جمال وجهها سحرا لا يقاوم فكيف يصمد أمام هذا النداء و كيف يقاوم هذا السحر و هذا الأمل ..؟ أخذها إليه و قبل جبينها بكل خشوع و قداسة الحب.
-أنا الآن بين أحضان الآلهة و الآلهة مقدسة و واجبي أن أحترم حرمة هذا المكان و مع هذا لديأ إعتراف يا ميساء ... لا تظنَي أني لا أحس بك بل أنا متيم حتى النخاع و لكني إنسان محطم و لا أمل لي في البقاء و لا طعم لي في الحياة ، سأشد بك إلى الهاوية ...و كيف أمنع عنك قطرة مطر و أنت لا تزالين في عزُ العطاء. طريقنا لا تجمع بيننا ، طريقي صارت قاب قوسين أو أدنى من النهاية و طريقك لا تزال غضٌة في بداياتها..
إنهارت سيماء بين أحضانه لا تبحث عن شيئ ، باردة كالصقيع، تدفن وجهها في صدره و تشمٌ رائحته الممزوجة بالعطر و بالرٌجولة و بسنوات الحرمان.
-" دعني هكذا عندك، أنا لن أطالبك بشيء و لن أفرض نفسي عليك و لكن لا تحرمني منك  أنا وجدت عندك ما افتقدته طيلة حياتي فكيف ترحل عني و تمنع عن نفسك و عنٌي أمل البقاء و حب الحياة؟؟ لا تكن قاسيا فالحب لا يعترف بأي مقاييس و لا أي بنود و لا أي أعراف"
وضع أحمد يديه الإثنتين على كتفي سيماء و أجلسها برفق على الكنبة و جلس قبالتها و قد بان عليه الجدٌ و الهم و الإعياء و تطلٌع فيها :
-" لن أستطيع ، لي واجبات و مسؤوليٌات جسام تجاه عائلتي و ليث لا يزال يافعا و لن يفهم. حاولي أن تقدٌري. ما بيننا خلق لنعيشه في حياة أخرى و دنيا أخرى ، لن يعترف بنا أحد و ستواجهين مشاكل و انتقادات من العائلة و حتى من الأصدقاء. ستقاومين في البدء و لكنك ستنهارين لاحقا . أعلم بالتجربة ما سيحدث لو تجرأنا على المضي في علاقتنا و تحدينا العالم..."
كان يتكلم بصعوبة و كانت الحروف تجري في فيه و لكنها لا تخرج بسهولة ، كانت تشكل كلمات جميلة و لكن قبل أن تولد إلى الحلق تتغير و تأتي قاسية ، جامدة، و باردة و لها وقع المصيبة عل قلب سيماء الطري فتنكمش بعيدا على قوة جاذبيته و تلك الرائحة المحبذة لديها و على رقة انفاسه و تشكل بجسدها نصف دائرة و ذراعيها ملفوفة حول ركبتيها و رأسها قد دفنته في الفراغ ما بين صدرها و فخذيها . ...
-"خلاص أحمد لن أحرجك أكثر ، هلا خرجت و تركتني سأهاتفك لاحقا؟"
و ككل مرة إنزوت ميساء في غرفتها و منعت عن تفسها ضياء النهار و أشعة الشمس المطهرة للقلوب و تركت للظلمة مهمة زيادة السرعة في الاكتئاب و الإنطواء على نفسها  و على هزيمتها و على طعم العلقم و رائحة العجز و الرفض....احتضنت أوراقها و قلمها و بثت فيهما وجدانها و قلقها و يأسها تارة تكتب أبياتا و طورا تكمل روايتها التي لم تجد لها إلى الآن  خاتمة و لا عنوانا....و في كل مرة تترك أشياءها مبعثرة على الفراش و تعيد البحث عنها إن أحتاجتها حتى عثرت على هذه الكلمات:
هذه قناعاتي
بسطت لك السماوات
و زينتها بألوان قزح
حتى إذا ما رفعت عينيك
لم تر غير الفرح
فأمحو ظنونك و كل المتاهات
فكيف أحبك أكثر
و قد أهديتك الوتر و إبداعاتي
فكيف أحبك أكثر
و قد وهبتك التاج و كلماتي
فكيف أحبك أكثر
و أنت القناعات كل القناعات
قرأتها و أعادت قراءتها مرات و مرات و مرات ثم قفزت من السرير و لبست ثيابها بسرعة و أستقر برأسها شيء واحد فقط . ستذهب إليه و ستدافع عن حبها و عن قناعاتها و عن وجودها و اختياراتها. هو كل حياتها فلن تيأس و لن تتراجع حتى تصير هي كل قناعاته. ركبت ميساء دراجتها و اتخذت الطريق الزراعية و قد تبدل كل ما فيها وجهها و تعابير عينيها و روحها و بسمتها و صارت الأمل بكل وروده و أزهاره و ربيعه و إخضراره و توقفت أمام البوابة الكبيرة المؤدية إلى البيت و أنفاسها تلاحقها في سباق فريد.

فتح أحمد الباب وإرتمت ميساء عنده غير مبالية بإظطرابه و حرجه و لا بثقلها المفاجئ الذي كاد أن يفقده توازنه و رنت ضحكاتها أرجاء البيت وهي تقول مازحة " وجدت الحل سأخطفك و أضعك أمام الأمر الواقع المحتوم و لن أهتم بأي إعتراض ...."
ساد الصمت لحظة إذ جلجل صوت أنثوي كله إغراء " هلا صعدت حبيبي قد طال إنتظاري ، هيا لا تتلكك و أكمل معي ترتيب كل هذه الأشياء"
هم أحمد بالكلام و لكن سيماء كانت قد سبقته إلى الخارج وهي تهرول تارة و تجري أخرى لا تكاد تصدق ما فعله بها و كيف تلاعب بمشاعرها و في رأسها الصغيرة ألف سؤال و سؤال و نقاط إستفهام و تعجب ...لماذا ؟ لماذا"
أختير ديوان سيماء عبد العالي "حاء و باء"  ديوان الموسم الثقافي بمهرجان الشعر و الشعراء بعاصمة الثقافة ورشح قصيدها لنيل الدرع الماسي لبيت الحكمة العربي لجمالية الصورة الشعرية و سلاسة الحرف و إحساس الشاعرة الفياض...
و قد ألقت الشاعرة سيماء بعض الأبيات و بصوتها بحة لا تخلو من سحر و لكن وحدها تعلم سببها فأنشدت تقول :
عيبي أني وثقت فيك حتى الإندثار
و عيبك أنك توغلت بقلبي بلا رجعة
عيبي أني رأيتك رجلا من زمن الإعمار
و عيبك أنك أزلت عقلي بقطرة من محبرة
و عيب الزمان أنه جمعنا
غطى عيوبنا و جملنا
فرأيت فيك ما أبهاني
و لقيت فيا ما وسًمك
أنت الأناني
و أنا الساذجة المغفلة "
****************
انتهـــــــــــــــــى
منية بن الإمام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق