الأحد، 20 مارس 2022

سنام ‏الزمان ‏☆☆☆بقلم ‏الأستاذ ‏ربيع ‏دهام

(قصرة قصيرة / سنامُ الزمانْ / ربيع دهام)

حملتُ جهاز التحكّم عن بعد، المبلّل بملح الدموع. 
نقرتُ زر الإطفاء. انقطعتْ أنفاسُ التلفاز.
أفضل، فما شاهدته للتو على الشاشة كاد أن يقطع أنفاسي.
فيلمٌ عن زمن العبودية أحزنني وأبكاني. 
تُرى كيف يكون الإنسانُ بهذه القساوة؟ بهذا الظلم؟
بهذا العنجهية والإستكبار؟
في نهاية الفيلم الهوليوودي الشهير، رأيتُ تمثال الحريةِ ينتصبُ شاهراً شمسَه. وفي الجهة المقابلة، شاهدتُ العبودية وهي تتقهقر وتذوب وتضمحل، واهبةً طريقها للشمس الآتية على ظهر حصان العم سام. 
سبحتُ في الدموع الفائضة وحاولتُ انتشال نفسي من حوض الفيلم مبتسماً.
 قلتُ في داخلي : " الحرية لا بد أن تنتصر في النهاية. الحمدلله. لم نعد في ذاك الزمان. قد مات عصر العبيد".
وبعد ثانية، وأنا أحاول الإنتصاب، شعرتُ بثقلٍ يسحق ظهري. ثقلٌ يجعلني أرى نفسي نملةً تحمل على سنامها فيلاً. والفيل يحمل بدوره فيلاً  آخر.
شعورٌ لازمني منذ فترة طويلة. مثله مثل ذاك الغشاء اللعين أمام عينيَّ.
أمشي وغبار الصحاري يلاحقني. أكشّه وأهشّه. لكنه، مثل الذبابة العنيدة، يعتصم في مكانه. ينصب خيمىته أمام ناظري. يشد أوتاده في مقلتَي، ويحجب عنهما وعني نعيم الوضوحْ.
 ألتفتُ يميناً أرى غباراً. ألتفتُ شمالاً. كأنني ما التفتُّ.
دبدبتُ نحو الغرفة. بالكاد وقفتُ أمام المرآة. 
مسحتُ الغبار عنها. لم أر شيئاً.
نسيتْ. الغبار في عينيّ لا على المرآة.
صاح بي الجوّال من داخل البنطالْ.
"أمرك سيدي!"، قلتُ للجوال.
استللته بسرعة. حدّقتُ في شاشته. هناك، رأيتُ كل شيءٍ بصفاءٍ ونقاوة.
إسم المتصل. الصُّوَر. حتى التفاصيل الصغيرة كلها تراءت أمامي 
وكأن لي حدقتَي شاب. 
نقرتُ الزر الأحمر. أعدتُ الهاتف إلى جيبي. 
عدتُ وحدّقتُ بالمرآة. غبار. 
خفتُ. حزنتُ. تركتُ البيت متلمِّساً طريقي.
وصلت الشارع. رأيت الغبار يولم لي هناك على أحرِّ من الشوق.
غضبتُ. 
نقرت كتف دماغي فكرةٌ لا أعرف من أي فيلمٍ أتت. 
استللتُ الجوّال. نقرتُ زر الفيديو. وبدأتُ التسجيل. 
صوّرتُ. فرأيت، من خلال الشاشة، كل شيءٍ بوضوح.
وكأن الغبار، قد نبت له جنحي نسرٍ، فطار إلى العلياء وهاجرني. 
وما إن طرقت شمسُ الحقيقة أبوابي، حتى رأيتهم.
يا إلهي!
أجسادٌ تمشي وعلى أكتافها رؤوسٌ مكعّبة. 
أهزّ شاشة الهاتف علّها تُخَرِّف. 
ناسٌ أكثر برؤوسٍ مكعبة. كبارٌ. صغارٌ. أطفالٌ.
وعلى ظهر كل واحدٍ منهم شيئاً كبيراً يحمله.
واحدٌ على ظهره بيتاً. وواحدٌ يحملُ أرضاً.
 وواحدٌ سيارةً. وواحدٌ غسالةً. وواحدٌ أوراق بنكية كثيرة كُتِب عليها كلمة "قرض". وواحدٌ يحمل خازوقاً، كخوازيق العثماينيين، نُقِش عليه عبارة :
" آخر الشهر".
وكان الكثيرون منهم يحملون أكثر من شيءٍ واحد. 
ما هذا؟ ما الذي يحصل؟
اقتربتُ من واحدٍ منهم. كدتُ أسقط حين اصطدمت قدمي بجسدٍ منطرحٍ على الأرضِ، وفوق الجسد المتهاوي كمبيوتر يدوس على قفصه الصدري ويشدُّ. 
تراءت لي آلاف الأجساد المنطرحة أرضاً تحت "اللابتوبات"
أكملتُ طريقي نحو الرجل المكعّب قافزاً فوق الأجساد. 
صوّبتُ كاميرا الجوال نحو وجهه ذو المربّع الكبير. 
نظرت في الشاشة كي أراه. وسألته : 
" لماذا تحمل كل هذه الأثقال؟ ولماذا وجهك مربعٌ؟".
لم يسمعني. 
حدّق بوجهي ولم يرني. 
صفن. فكّر. ربما طرقتْ مربّعه فكرة لم يعرف من أي برنامج هاتفيٍّ أتته. 
فجأةً، وإذ به يكتشف البارود، صوّب جوّاله نحو رأسي، فرآني. 
ولمّا رأني ابتسم.
ولما ابتسم، قذفته بالسؤالِ مجدداً : 
" لماذا تحمل على ظرك كل تلك الأثقال؟".
نظر في شاشة جوّاله. كست ملامحه علامات الإستفهام والتعجّب. قطّب حاجبيه من خلف المربّع  وقال : " أثقال؟! أية أثقال؟". 
ثم عاد وحدّق في شاشة جوّاله وأخذ يضحك. 
على ماذا لا أعرف.
مسكين هذا الرجل. يحمل كل تلك الأثقال ولا يدري. 
تراجعتُ إلى الخلف لا ألوي على شيء. 
ورحتُ أمشي وأمشي. 
أبحث، من خلال الشاشة، عن جسدٍ برأسٍ بشريٍّ.
لكني عوض ذلك، رأيتُ فيالق كم المربعاتِ على الشاشة أمامي. 
شدّني، من خلف الشاشة، برميل نفايات. 
اقتربتُ منه.
رأسٌ بعينين وأنف وأذنين ودماغ يتحرّك. 
"هلليلويا!".
لا. لا تسعد يا قلبي. 
لم يكن ذاك رأساً بشرياً. بل كان رأس قطّة تبحثُ لها عن طعام.
جلستُ قربَ القطِّة وسألتها : 
" لماذا يحمل البشر كل تلك الأثقال؟ ولماذا رؤوسهم مربّعة لا عيون 
وأذنان وأنف فيها؟".
حدّقتْ بي الهرّة. انبسطتْ على ظهرها، وراحتْ تضحك وتلتوي وتقهقه.
نظرتُ في الشاشة وسألتُها غاضباً : 
" ماذا بكِ أيتها القطة اللعينة؟! أنا لا أمازحك. قولي لي.
ما بهم هؤلاء البشر؟ ".
وعلا منسوب ضحكها أكثر وأكثر. 
انتصبتُ بألمٍ. وكأن هموم الدنيا فوق ظهري.
اقتربتْ مني القطة. حنت ظهرها. اعتقدتُ أنها أتت لتلاطفني. 
لكنها فجأة، وبقفزةٍ رشيقة أكروباتية  طارت نحو ظهري المحدودب 
وغطّت عليه.
ولمّا صرختُ بها: "ماذا بك أيتها اللعينة تفعلين؟".
أجابتني: "وماذا أفعل؟ أفعل كما تفعل كل القطط.
أبحث في البيتِ الذي على ظهرك عن طعام".
صُعِقتُ. تحسّستُ وجهي بيديّ. كان مربعاً وليس وجهاً.
وبحركة يدٍ خاطقة، التقطت ذيل القطّة مِن على ظهري.
سحبتها نحوي.
شددتُ على عنقها. وقرّبتُها من شاشة جوّالي. 
حدّقتُ بها غاضباً.
وهناك، في بؤبؤ  عينيها، رأيتُ وجهي الحقيقي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق