خديجة بنت خويلد "أم المؤمنين"
خديجة بنت خويلد بن أسد أم المؤمنين، الطاهرة الورعة التقية، أم فاطمة الزهراء وزينب وأم كلثوم ورقية وعبد الله رضي الله عنهم أجمعين.
ولدت قبل عام الفيل بخمسة عشر عاماً، ونشأت في بيت مجد وعز وسؤدد.
كانت ذات مال كثير وجمال معروف بين نساء قريش، وكانت تعمل في التجارة وتستأجر الرجال في تجارتها.
سمعت السيدة خديجة رضي الله عنها بصدق حديث محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وسمعت بأمانته وحسن أخلاقه، فرغبت في أن يسافر في تجارتها مع غلام لها يدعى ميسرة، فوافق محمد صلى الله عليه وسلم وسافر مع ميسرة في تجارة إلى بلاد الشام.
وفي الطريق كانت عناية الله لرسوله، وأثناء فترة استراحة تحت ظل شجرة قريباً من صومعة راهب، خرج الراهب ليرى النور في وجه محمد فقال: مَنْ هذا الرجل الذي نزل تحت الشجرة؟ فو الله ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي.
فلما رجع محمد صلى الله عليه وسلم إلى مكة كانت تجارته قد ربحت أضعاف ما كانت تربحه في تجارتها السابقة. قدم ميسرة على خديجة وأخبرها ما حصل لهما في الطريق، وما قاله الراهب.
وكانت السيدة خديجة رضي الله عنها امرأة حازمة لبيبة شريفة، وأراد الله إكرامها باقترانها بسيد البشر وخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.
فبعثت إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقالت:
إني رغبت فيك لقرابتك وشرفك في قومك، وأمانتك عندهم، وحسن خلقك، وصدق حديثك.
وتم زواج خديجة رضي الله عنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن خرج حمزة ابن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبها من أبيها، الذي سرعان ما وافق وقال: نِعَم الزوج! فما رأينا محمداً إلا خير فتيان قريش وأصدقهم حديثاً، وأكثرهم أمانة، وأحسنهم خلقاً.
ولم تكن خديجة رضي الله عنها تضجر من عادة درج عليها زوجها، وهي بأنه كان يذهب إلى غار حراء، ليفكر في ملكوت الله وعظمة خلقه، وليبتعد عن أجواء مكة الفاسدة، وكانت هذه الخلوة التي يقوم بها تعينه وتشد من أزره، وتثبت قلبه، وتخفف عنه الروع ، وتسانده في تحمل الأذى.
وفي غمرة مناجاته وتأملاته وتفكره في خلق السموات والأرض نزل عليه الوحي قائلاً له قوله تعالى: "اقرأ باسم ربك الذي خلق" [العلق:1].
فأخذ يرجف فؤاده ونزل من الغار وجسمه يرتعش، وأسرع إلى خديجة رضي الله عنها قائلاً: زمِّلوني- زمِّلوني..
وما إن ذهب عنه الروع حتى قال لخديجة:
لقد خشيت على نفسي على خديجة.
فقالت خديجة رضي الله عنها: كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق.
وروى النبي صلى الله عليه وسلم ما كان قائلاً:
فخرجت حتى إذا كنتُ في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول:
يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل.
قال محمد صلى الله عليه وسلم لخديجة رضي الله عنها:
رفعت رأسي إلى السماء، فإذا جبريل في صورة رجل صافٍ، ووقفتُ أنظر إليه فما أتقدم ولا أتأخر، حتى بعثت رسلك في طلبي.
فقالت له خديجة رضي الله عنها:
أبشر يا ابن العم، واثبت، فو الذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، ثم قامت فجمعت عليها ثيابها وانطلقت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان قد تنصّر في الجاهلية، فأخبرته بما أخبرها به محمد صلى الله عليه وسلم فقال ورقة بن نوفل:
قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر، الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة وقولي له: فليثبت.
وجزعت السيدة خديجة رضي الله عنها واستولى عليها الحزن والغم عندما قال ابن عمها ورقة بن نوفل لزوجها محمد صلى الله عليه وسلم: والله لتُكذَّبَنّ، ولتُؤذَينَّ، ولتُخرجَنَّ، ولتُقاتلَن، ولئن أنا أدركت تلك الأيام لأنصرنّ الله نصراً يعلمه.
ووقفت رضي الله عنها إلى جانب زوجها تسانده وتشد من أزره، فقد كانت قوية شديدة الإيمان، واثقة من زوجها وما بعثه الله من أجله، فكانت رضي الله عنها اول من آمن بالله ورسوله، وصدّق بما جاء. فخفف الله بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان لا يسمع شيئاً يكرهه مِن ردّ عليه أو تكذيب له إلا فرّج الله عنه بها.
وكانت السيدة خديجة رضي الله عنها تخشى على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يصيبه مكروه، فكانت حذرة من أي إنسان يسألها عنه. وحدث أنها كانت ذاهبة إليه في يوم إلى غار حراء تحمل غذاءه، فلقيها جبريل في صورة رجل، فسألها عن النبي صلى الله عليه وسلم فهابته وخشيت أن يكون بعض من يريد أن يغتاله، ولما ذكرت لزوجها قال النبي صلى الله عليه وسلم:
هو جبريل وقد أمرني أن أقرأ عليك السلام.
فقالت خديجة: عليه وعلى رسول الله السلام.
وتهب نسائم عليلة في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتعالى فيه تسابيح وأدعية وتظهر بشائر الفرح فقد أنجبت الطاهرة العفيفة السيدة خديجة رضي الله عنها بنتاً هي "زينب" ويحملها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودموع الشكر والحمدلله عز وجل الذي وهبه هذه النعمة الكبرى بعد فقده القاسم الذي اختطفته يد المنون وهو ما زال صغيراً، وبعد سنوات يصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لرقية وأم كلثوم وعبد الله "الذي توفى صغيراً" وفاطمة الزهراء رضي الله عنهم فكانوا الذرية الصالحة لخير أب وأم فوق ظهر الأرض. بل لقد كانوا خير ذرية من خير أب وأم.
ولشدة حب السيدة خديجة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وهبته زيد ابن حارثة الذي كان مولاها لأنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يميل إليه. فكان ذلك سبباً في سبق زيد بن حارثة إلى الإسلام.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادل خديجة الحب والمودة والاحترام حتى أنه بشّرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
وأي شرف عظيم هذا الذي تخطى به سيدة العالمين خديجة بنت خويلد رضي الله عنه، بل إنها سيدة نساء أهل الجنة.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يثني على خديجة، ولا يخرج من بيته مرة إلا وذكرها بخير.
وفي إحدى خلواته صلى الله عليه وسلم مع زوجته رضي الله عنها، قالت خديجة رضي الله عنها:
يا ابن عم، هل تستطيع أن تخبرني بصاحبك الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم.
فبينا هو عندها إذ جاء جبريل، فصدَّقت به وقالت:
ما هذا بشيطان، إن هذا لملك يا ابن العم، فكان من كرامتها أن جبريل عليه السلام لم تره من نساء الرسول إلا خديجة، ولم يقرئ سلامه إلا لخديجة، ولم ينزل على أحد من نسائه إلا على خديجة رضي الله عنها وعلى عائشة أيضاً رضي الله عنها.
ويتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأذى المشركين والتنكر لرسالته وراحوا يعذبون أصحابه محاولين دفعهم للارتداد عن الدين الجديد، ولم يوفروا أيّة وسيلة في سبيل إيقاف دعوته للدين الإسلامي الحنيف الذي سفّه أحلامهم وزجرهم عن عبادة الأوثان ودعاهم إلى عبادة إله واحد لا شريك له.
ولم تكن خديجة رضي الله عنها بعيدة عن هذه الأحداث، بل كانت إلى جانب زوجها الرسول العظيم تشدُّ من أزره وتعينه على تحمل أذى المشركين.
واشتد أذى المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم عندما لم تفلح كل السبل في صده عن دينه ففرضوا الحصار عليه وعلى أصحابه الذي دام ثلاث سنوات لم يأتهم خلالها شيء من الطعام إلا اليسير حتى إنهم اضطروا أن يأكلوا أوراق الشجر وكل شيء رطب.
وكانت خديجة رضي الله عنها مع زوجها صلى الله عليه وسلم، تواجه الجوع والعطش ولم تكن تتركه لحظة، خوفاً عليه، وآثرت أن تترك بيتها لتخفف عن النبي صلى الله عليه وسلم العذاب والأذى.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يواجهون الحصار بقوة وصلابة وبعزيمة لا تلين، وبإيمان بالله ورسوله لا يتزعزع.
وتفاقمت النوائب والمصائب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد توفي عمه أبو طالب الدرع الذي كان يحميه ويرد عنه أذى المشركين، وبعده بمدة يسيرة توفيت السيدة الطاهرة العظيمة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها عن خمس وستين سنة بعد أن عاشت خمساً وعشرين سنة في كنف الرسول صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في رمضان من السنة العاشرة للبعثة النبوية، وقبل الهجرة بثلاث سنين.
ونزل النبي صلى الله عليه وسلم دامع العينين في قبرها حزناً وتأثراً "ولم تكن قد سُنّت صلاة الجنازة" ودفنت رضي الله عنها في الحجون بمكان قرب مكة.
ولم يبق له من سند يعينه عليه الصلاة والسلام سوى الله عز وجل الذي شاءت إرادته أن ينتصر المسلمون وينتشر دين الإسلام في بقاع الأرض.
وفي أثناء مرضها كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لا يتركها أبداً بل كان يعودها. دائماً محاولاً تسكين آلامها والتخفيف عنها. وقال لها مرة:
بالكره مني ما ثبت عليك يا خديجة، وقد يجعل الله في الكره خيراً كثيراً، أما علمت أن الله تعالى زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران وكُلثم أخت موسى، وآسية امرأة فرعون.
فقالت خديجة رضي الله عنها:
وقد فعل ذلك يا رسول الله؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
نعم بالرفاء والبنين.
كان السيدة خديجة رضي الله عنها أحب زوجات النبي صلى الله عليه وسلم إلى نفسه وكان يذكرها ويكثر من ذكرها حتى بعد مماتها، قالت خولة بنت حكيم خادمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يا رسول الله، كأني أراك قد دخلتك خُلَّةٌ لفقد خديجة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم أجل، كانت أم العيال وربّة البيت.
وخشي الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهم والحزن الذي أصابه بعد موت خديجة، فسعوا إلى تزويجه، وكانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها هي البديل الذي أراح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت عائشة رضي الله عنها تغار من خديجة رُغم أنها لم تجتمع معها في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت تقول له صلى الله عليه وسلم:
هل كانت خديجة إلا عجوزاً، وقد أبدلك الله خيراً منها.
فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:
لا والله ما أبدلني الله خيراً منها. آمنت إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبتي الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني منها الله الولد دون غيرها من النساء.
فقالت عائشة رضي الله عنها:
فقلت في نفسي، لا أذكرها بعدها بسُبَّةٍ أبداً.
وتتابع عائشة رضي الله عنها حديثها عن خديجة رضي الله عنها وغَيرَتَها منها فتقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صديقات خديجة.
د عبد الحميد ديوان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق