وجوه على الجدران
قصة قصيرة بقلم : حسام الدين فكري
(اللوحة المرفقة بريشة الفنان العالمي "أليكساندر فارتو")
........................
حين غمرتنا المياه، انتفخ وجهينا وتداخلت ملامحنا، ثم صرنا في لحظة واحدة وجهاً واحداً في جسدين . فتح لي باب السيارة، بعد عناء شديد، بما تبقى له من قواه الخائرة، تشبثت بقميصه أجذبه معي، لكنه نزع يديً بسرعة ودفعني دفعة قوية أرسلتني إلى سطح المياه . أخذت أدور بعينين جزعتين في كل الاتجاهات من حولي، علّني أراه يطلّ بوجهه، دافعاً الهواء قدر مايستطيع إلى رئتيه، لكني انتظرت طويلاً، حتى تحولت الدقائق إلى سحابات جافة، لا تمطر شيئاً !.
حين كنت في نحو الثامنة من عمري، بدأت ألحظ خيالات غريبة تلوح لي فوق جدران غرفتي، تبدو أكثر وضوحاً على السقف، كأنها تنبض بالحياة، وقد تبينت - أول ماتبينت – وجه جدي يظهر لي جلياً، بابتسامته الواسعة التي كان يستقبلني بها كل صباح، قبل أن نجلس معاً في ظل شجرة البلوط العتيقة، في باحة منزلنا الكبير .
كان جدي وقتها قد تركني وعاد إلى السماء، فلا تنظر إليّ أمي إلا وتجدني شاخصة ببصري نحو السماء، كنت أنتظر جدي حين يعود من رحلته، لقد أخبروني أنه ذهب، لكنهم لم يخبروني أنه لن يعود ! .
على جدار غرفتي بدا جدي سعيداً كأنه ارتاح من صحبتي، ضايقتني ابتسامته هذه المرة عندما دار بخلدي هذا الخاطر، لكن ذراعه التي ترتسم عليها آثار عمليات جراحية أجراها قبل وفاته، كانت تمتد نحوي في وداعة مشرقة، لم أنتبه لنفسي حين استجبت لندائه من العالم الآخر وألقيت جسدي الصغير على ذراعه..طراااخ..بالطبع، لقد ألقيت نفسي في الحقيقة على الجدار، فتراجعت للخلف بتلقائية وكتفي تؤلمني بشدة، ثم أخذت أتأمل صورة جدي الثابتة التي ظننتها تتحرك،لم يكن جدي يتحرك، لكن ابتسامته التي علقت بذهني حين رأيته للمرة الأخيرة، كانت هي فقط تتحرك، أو ظننت أنها كذلك، فوضعت يدي على فمي وأرسلت لجدي الحبيب قبلة في الهواء، لم أكن على ثقة وقتها إن كانت قد وصلت إليه أم لا !.
ثم توالت الصور التي ترتسم على جدران غرفتي، تبدو لي في لمحات خاطفة، ثم سرعان ماتنمحي، فأحملق في الجدار ولا أفهم هل رأيت بالفعل ما بدا لي أني رأيت، أم أنه خيالي الصغير يعبث بي وحسب . كانت في معظمها صور وجوه أحبائي من أقاربي الذين غادروا الحياة، خالتي "عزيزة" بفستانها زاهي الألوان الذي كانت تعتز به رأيتها عدة مرات، وعمي "فاروق" يبدو لي مُلتفاً بكوفيته الصوفية في كل مرة أراه فيها، وحتى عم "شندويلي" البستاني الذي كان ثالثنا أنا وجدي دائماً، رأيته واضحاً، مازال بُستانيا حتى في العالم الآخر ! .
لكن ثمة صورة بالذات، لم أعرف لمن هي، ولماذا أراها كل يوم، كأنها "واجب منزلي" يجب عليّ أدائه يومياً، فلا أنام أبداً إلا بعد أن أراها، ولو حاولت أن أصرف نظري عنها قبل نومي، فلابد أن أراها في منامي..ماهذا الاصرار الغريب ؟!..من أنت أيها الشاب الذي يحتل بوجهه جدران غرفتني ويشاركني في أحلامي ؟!..ولماذا تظهر دائماً حولك بقع حمراء داكنة ؟!..لم أجد تفسيراً لشيء، ولم أجد حتى من أظن أن أجد تفسيراً لديه !!.
بعد سنوات طوال، كنت في عامي الجامعي الثالث، عندما اصطدم الميكروباص الذي أستقله بسيارة أخرى، وفي لمح البصر وضع الشاب الذي يجلس بجواري ذراعه خلف رأسي؛ كيلا يصطدم رأسي بالمقاعد من فرط الهزّة المفاجئة داخل المركبة..فلما هبطنا من الميكروباص، التفتُ إليه حتى أشكره، فكاد حاجبيّ أن يتداخلا في شعري، حين وجدته يحمل ذات الملامح التي أراها منذ سنوات..لكن دهشتي كانت أكبر عندما وجدت خيطاً من الدم يسيل على جبهته، فقد اهتم لأمري ولم ينتبه إلى اصطدام رأسه ..وبالنافذة المجاورة له، فأسرعت بوضع منديل ورقي على جبهته..وكانت طلقة البداية !.
نما حبنا كزهرة نرجس برية تتطاول بعنقها نحو السماء، دون أن تدري شيئاً عما يدور في العالم من حولها، صرنا أنا وهو عالما مستقلا بذاته..أبدأ يومي بصوته حين يوقظي، وأختتم يومي بصوته الدافيء، ثم أحتضن جوالي وأنا نائمة !
كنت أرى صورة جدي كثيراً في تلك الفترة، تلوح لي على سقف غرفتي، بابتسامته الحنون الملتصقة بشفتيه، فيخيل إليّ أنه يبارك قصة حبي.
تزوجنا بعد أن أنهيت دراستي الجامعية بعامٍ واحد، ولم يمض عام آخر إلا وكنت أحمل ثمرة حبنا في أحشائي..لكن الدنيا – فيما يبدو – قد استكثرت علينا سعادتنا التي ننعم بها..ففي لحظة قاسية من اللحظات التي تبقى في ذاكرة المرء رغماً عنه، كنا نستقل سيارة زوجي معاً على طريق كورنيش النيل، حين برزت فجأة من أحد الشوارع الجانبية سيارة نقل ضخمة يقودها شاب أرعن، اندفعت بسرعة هائلة نحونا وألقت بنا وبسيارتنا في مياه النهر..وما استطعت من وقتها أن أنسى أبداً عينيه اللتان كانتا تشعان بوهج من الهدوء والسكينة، كان يخترق طبقات المياه ليحفر نفسه في تلافيف عقلي إلى الأبد !.
الآن تنساب ذاكرتي في خيوط من الأسى، وأنا أتأمل وجه ولدي الصغير ذي الأعوام الثلاثة، الذي جاءت ملامحه صورة مطابقة لملامح والده الراحل..لكني منذ بضع دقائق كنت أضحك من قلبي، حين أمرت ابني بفعل شيء فصدرت عنه حركة عصبية محببة، هي ذاتها كانت تصدر أحياناً عن زوجي الحبيب !!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق