قصة قصيرة: بقلم: الأستاذ: عبد الستار الخديمي/تونس
***العشق الممنوع***
كعادته اتخذ مكانا في زاوية من زوايا المقهى.. المكان الذي يلمس فيه بعض الهدوء رغم فوضى الحركة والأصوات من حوله.. نادل يصيح وزبون يضحك ملء شدقيه.. والسواد الأعظم من روّاد المقهى يدفنون رؤوسهم في هواتفهم وكان العالم من حولهم لا يعنيهم في شيء.. كان في ما مضى ضخب المقاهي يتجلى عاليا في الحوارات الاجتماعية والسياسية التي يحتدّ فيها النقاش وتعلو فيها الأصوات وقد يصل الأمر إلى حدّ التلاسن.. غاب كلّ ذلك في خضمّ سطوة وسائل ووسائط التواصل الاجتماعي..
كان ينظر إلى ما حوله في شبه غيبوبة، فقد أدمن ثلاثة أمور: ارتشاف القهوة برائحتها الفواحة ودون سكر وعلى مهل، وتصفح جداره على صفحته في الفيسبوك، وكتابة ما تيسر وما جادت به قريحته من الشعر أو النثر، كان يراوح بينها في نشوة أحيانا وفي انقباض أحيانا أخرى..كان يتفقد أصدقاءه الافتراضيين -في أغلبهم- يلقي التحية أو يجيب عليها بكلمتين أو ملصق جاهز يحتوي بعض الورود التي لا معنى لها لمجرد أنها ملصق يستعمله الجميع كأبخل صورة للمجاملة..
عرف إحداهن مصادفة، وبدأت حواراتهما عادية روتينية لا تتجاوز السؤال عن الأحوال والتعرّف إلى بعضهما البعض، في ما يتعلق بالعمل والعائلة وبعض الاهتمامات والانتظارات والتوجهات الفكرية والسياسية.. كانا يتناقشان في مواضيع تتعلق بالانتخابات وبالعلاقات الإنسانية وبالحبّ وبالدراسة والأدب.. مواضيع شتى.. كانا يعتمدان أسلوب الفراشة فينتقلان من موضوع إلى آخر في سجال بيزنطي أحيانا كالأطفال ويراوحان بين الجدّ والهزل، بين الواقع والمتخيّل، بين الممكن والمستحيل..
كان في بداية خريف العمر خبر الدنيا وخبرته.. تمرّغ في الوحل وكان صلدا كالصخر، يقارع النوائب ولا تكدّر صفوه الشوائب رغم ثقل وطأتها التي تجثم على الصدور فتضيق بها الأنفاس .. كان دائم التفاؤل والانسجام مع نفسه والعالم من حوله..
دخلت حياته صدفة بزرٍّ ولم يستطع إخراجها منه بنفس الزرّ .. إنها طيف بلا ملامح راح يرافقه، بادئ الأمر في أوقات متباعدة، ثم صار التواصل يتكثّف.. صار الطيف نزيلا مستمرا في هاتفه وفي جدول اهتماماته اليومية.. لم تتوضح الملامح ولكنه كان يتعامل معها كما الصور الشعرية .. فقد كانت "صديقته-حبيبته" حالمة كالفراشة تتنقل بين موضوع وآخر وهو يعايش قفزها ويتخيّله في مرج أخضر ممتدّ.. كانت متفائلة كالصباحات النديّة.. نقية كالياسمين..
كانت ترافق قهوته الصباحية .. كلاهما أنثى مستفزّة.. يمتطي صهوة الحرف ويبحر في الكلام تائها بسفينة دون ربّان.. يخط وجها حلم به ليلا .. امرأة رمزا يستلهم بعض إيحاءاته من طيفها المرابط دوما عند الباب.. كجني الأطفال يرافقهم في نومهم ويقظتهم..
كان يستفزّه حضورها وطريقة ضحكتها التي يقرأ صدى صوتها في أذنه وفي عينيه وحركتها التي يصوّرها في ذهنه ويردّ على كلّ ذلك وكأنها تتقاسم معه طاولته في زاوية المقهى وتبادله ارتشاف قهوته.. كانا يعيشان معا بالغياب فلا معنى للمسافات الفاصلة بينهما ولا معنى لشكل الأمكنة ولا خصائص الأزمنة.. ولا معنى لوجود من حوله من روّاد المقهى.. لقد أحسّا في لحظة ما بأنهما تقاربا وتطوّرت مشاعر الودّ بينهما.. هل يعيشان حبّا جديدا.. هل يعيدان تفاصيل العشق الممنوع الذي جمع مي زيادة وجبران.. هل هناك حب افتراضي شأنه شأن العلاقات التي تنسج على شبكات التواصل الاجتماعي.
رنّ جرس الهاتف وأزّ بين يديه، انتفض وأفاق من غفوة حلمه وفتح السماعة "ألو.. أين أنت.. ابنتك في حاجة إلى طبيب.. أسرع". نفض نفسه وبقي ممزقا بين حلمه وبين واقعه.. لم تنته القصة بعد.
الثلاثاء، 15 أكتوبر 2019
العشق الممنوع / بقلم الأستاذ عبدالستار الخديمي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق