رمضان كريم
الحلقة الأولى:
العب عالميَّا
جلست أمام مكتبها بفكرِ متأرجحٍ بين الاستفهام والتعجب، حين وقع بصره على صورة بلون النهار والليل من العصور الأولى للكاميرا، لفتاةٍ لم تتجاوز الثانية عشرة من عمرها تقريبًا، خلفها حمارٌ مربوطٌ في شجرة الكازورين على حافة مجرى ترعة صغيرة، والشط الآخر أحواض زرعٍ، تحدّها دورٌ لبنيّة البنية، واضحة الملامح، فوقها أكوامٌ توحي أنها سيقان قطن، يرفرف فوقها الغسيل، وجريد النخيل يداعب السحاب الذي تدلّت ستائره خلفه.
في ابتسامة تعجبٍ قلت:
- أليس من المضحك ظهور الحمار خلفك، ومن العجيب احتفاظك بالصورة ووضعها على مكتبك؟!..
بين أنفاسٍ اختلطت فيها شهيق سعة صدر الزهو والثقة مع زفير مبتسم الملامح مخنوق برعشة العَبرة، قالت:
- لو كشف الستار عن القصة حُلت عقدة السؤال، وبطل التعجب من وجود الحمار والاحتفاظ بالصورة حتى بلغ جسدي من العمر أرذله... اسمعي القصة..
ذات يومٍ، نزل بلدتنا الصغيرة بائع غزل البنات، التقم بوقه ونفخ كأنها نفخة الصور، بُعثِت البلدة من صمتها، حشر حوله الأولاد والبنات والنساء، كل يحمل ما ادخر، كنا ندخر كل شيءٍ قديم عفا عليه الزمان، ولم يعد يصلح للاستخدام، من أوانِ معدنية قديمة لم تعد صالحة لتكون حتى مسقاة للطيور، وشكائر الأسمدة الممزقة، والزجاجات البلاستيكية المثقوبة، وأحذيتنا القديمة بعدما تفشى فيها المرض ومزقها،
ولم يعد علاجها بالكي يلحمها واشتكت منها أقدامنا لطوب الأرض مُرّ الشكوى، كنا نقايض بما ادخرنا لشراء غزل البنات والتقاط الصور، شاء القدر أن يلتقط لي بائع غزل البنات هذه الصورة، أنا وهذا الحمار، زميلي في مجرى حياتي، إنها كاميرا الكفاح تتحدي النسيان مع الزمان..
توفي أبي ـ رحمة الله عليه وعلى الجميع ـ وأنا في الثانية عشرة من عمري، كنت ناجحةً ومنقولة للصف الأول الإعدادي.. ذات يومٍ وجدتُ أمي ـ رحمة الله عليها وعلى الجميع ـ جالسةً بجوار الحائط تبكي، تسند ثقل همّ رأسها بكفها المتكئ على فخذها، تنازع ألم ومرارة حالنا!!.. وعلى الرغم من صغر سني، ضَّمها قلبي، وبأطراف حنين جلبابي جففتُ دموعها، ارتعشت مشاعري وتساقطت العَبَرات دون إرادتي، لملمتُ مواساتي في أحرف كلمتين بعد هروب الكلام مني، وعلى إيقاع الأنين سألتها:
- لماذا تبكين؟
رج الألم رأسها، وتقلص على وجهها، عضّتْ عليه بأسنانها وحبسته في قاع عينيها، لكنه استطاع تحطيم أغلال الكتمان، واندفع مع زفيرها يلفحني في أعماق وجداني، وانهمرت الدموع كالمهل محطمة أسوار جفونها المنتفخة يكوي مشاعري، ومن بين ثقل أنفاس حِمْل المسئولية، وتحشرجتِ الكلمات في أحزانها قائلةً:
- رحم الله والدك والناس أجمعين!! قوامة فكره ما زالت تجري مجرى الدم في أمورنا، لكن قوامة الإنفاق رحلت مع رحيل جسده.. عاش مرتديًا ثوب المسئولية
ولم يشق على أحدنا، وأخويكِ الاثنين في الجيش، وليس لنا رجل نقتات من عرقه ويتكفل بنا، مع نفاد آخر حبة قمح علا في أعماقي صراخ بطون إخوتك الصغار البنات، وأخجل أن يطرق سؤال حاجتنا باب الجيران، وأستعير مكيال قمح أو ذرة، ولا أعرف متى وكيف السبيل لإرجاعه؟!.. جلست أبكي وأشتكي حالنا لربي وأدعوه أن يتلطف بنا ويرزقنا من حيث لا نحتسب.
مازلت أكتب لكم
وسأظل بإذن الله تعالى أكتب لكم ولنضع بصمتنا معاً على وجه هذه الحياة
سياده العزومي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق