لنضع بصمتنا معاً على وجه هذه الحياة
طائرة ورق (كاملة)
جلس على كرسيه الهزاز في شرفة مكتبه يحتسي أنفاس الهدوء بمذاق فنجان قهوته المفضلة ينظف عقله وروحه من ضوضاء الأفكار، ونباح صراع المعاملات بعد أسبوع عسير من العمل، تعود أن يربت بيد ذكريات الماضى على حاضره، يرطب فكر القلب، ويطمئن الروح، ويسكن آلام بعض الجراح؛ ليستطيع أن يبتلع كبسولة الواقع المرير...
أسند رأس حاله على كرسيه، ظل يؤرجح فكره بين الماضي والحاضر، وقعت عين سمعه على طائرة ورق، تحكي قصتها في الأفق، سرقته إلى عالم الطفولة، عندما كان وحبيبة قلبه (شقيقته الصغرى) يدخران من مصروفهما اليومي لشراء لوازم الطائرة، وفي العطلة الأسبوعية يصنعان الطائرة ويطلقان لها حبل العنان، يصنعان في تكتم وترقب بصمت يكسوه السعادة، وهمس الابتسامات، وتراقص النظرات، تلبي طلبات فكره مسرعة، وهو يقبل يدها تارة، ويقبل رأسها تارة أخرى، يقطع.. يقص.. يلصق..و..و..و...
في عجالة وشوق من أمرهما طالما حلما بعمل فكرة تجعل الطائرة لا تقف عند سطح الغلاف الجوي، بل تخترقه لمعرفة العالم اللانهائي، فكم قرأ في موضوعات القراءة عن شهيد الطيران "عباس بن فرناس" و"الأخوين الأمريكيين ويلبر وأورفيل رايت"، وعند الانتهاء من صنع الطائرة، يلتحفا فرحة الطفولة عكس اتجاه موج الرياح، ووسط عزف أنغام صرخات عالية متواصلة تملأ صدرهما، يبسطان جناح روحهما ويطيران فوقها؛ لتسبح بهما إلى سطح الفضاء، تحكي حكايتها، تهلل الطيور على الأغصان، وترقص على أنغام تغاريدها أوراق الشجر، الشمس تغرب في الأفق البعيد وتستتر وراء جبلين تراقب عن غفلة بجزء من عين قرصها لحظة إطلاق العنان للطائرة، وبعدما يعسعس الليل وتملأ الفرحة الكون، يسرعان ، ويضربان الأرض في طريق العودة إلى المنزل، كان لهما غرفة واحدة وسرير واحد يظل يربت عليها ويعيد شريط اليوم حتى يسرقها النوم منه وهو قابض على يدها والخيط، ويغلبه النعاس.. فينطلق حبل العنان للجميع...
الفراق الأول:
مرت السنون .. عاد يوماً من المدرسة وجد سريرا جديدا في حجرتهما ووسط ثورة بركانية سأل أمه: لماذا..؟
فورًا أجاب أبوه قائلا: لأن الله أمرنا بذلك ...
كتم بركان غضبه بداخله وطعن بسهم الفراق الأول في برعم حبه رغم كونه على يقين بطبيعته الفطرية أن الله لا يأمر بشيء إلا وفيه الخير.
جلس بجوار سريرها يربت عليها حتى يسرقها النوم ويغلبه النعاس وهو قابض على يدها والخيط ومازالت روحهما تحلق مع طائراتهما مر الفراق الأول وسط أسئلة وبحث وصراع داخل نفسه يكاد لا يستوعب إجاباتها، الواقع أمام عينيه ..حجرة أبيه بها سرير واحد.. لكن هناك شيئاً بفطرته يخجل أن يسأل عنه، يراه فى بعض الأحرف عيباً...
الفراق الثاني:
وبعد أعوام استطاع أن يفهم ويستوعب إجابة بعض الأسئلة التي كانت تدور في خاطره وتكون المفاجأة الثانية حجرة خاصة بها وخزينة جديدة وملابس أصبحت تخجل أن تبديها له.. امتد الأمر فلم تعد تخرج معه ليطلقان حبل العنان لطائراتهما فراق أقسى من الفراق الأول، وجد حال نفسه يخرج يتجول في الشوارع بين الصبية، يساعدهم تارة ويراقبهم تارة أخرى، يجول في الشوارع بين لعب الصبية شارد الفكر حزين الفرحة، عند جذع أي شجرة يجلس يسند زمن يومه إليه، يمد عين سمعه للسماء ينصت لحكاية كل طائرة ويحكي لها.. صيحات الصبية تملأ الأرجاء، وهو فارغ القلب وحيد يملأ صدره بذكريات الماضي ويعض عليها بداخله حتى تكاد تزهق روحه، يخرج فراغ حزن قلبه في لهيب زفير من الأسى والحزن ...
الفراق الثالث ...
ما لبث أن دق الباب خطيب لها، كان الخبر عليه كالصاعقة لم تعد الوحدة في صنع طائراتهما وإطلاق حبل العنان لها أو فراق حجرات داخل المنزل، بل هناك فراق أقسى من سابقه أصبح الخطيب أقرب إليها منه، يخرج معها، يمسك يدها، تعلو صيحاتهما معا، أصبح خطيبها مقدماً عليه عند الكل، تعلم لغة الصمت فأخذ يسند زمنه إلى أي شيء صامت يفضفض معه بأنفاسه ونظراته ليستريح قليلا، ويُخرج ما يحمله من حزن وأسى، راح يبحث عن محبوبة له بين زميلاتها تكن شبيهة بها يراها فيها وكان النصيب، دائما كان يلبسها ثوب ذكريات الماضي القريب إلى قلبه، علمها كيف تصنع الطائرة، كان يحب أن تكون معه وهو يطلق حبل العنان.. لكنه اكتشف أن هناك فارقاً كبيراً بين الماضي والحاضر، لم يكن الفارق بين شقيقته وبينها فقط ،بل امتد الفارق إلى نفسه أيضا لم تعد صيحات وضحكات الطفولة والتحاف الرياح يشعر بها كما كانت، فكان يقف في أعماقه تائها بين إحساس ذكريات الماضي التي لم تعد من صداها وبين إحساس الواقع الغريب عنه...
الفراق الأخير:
تزوجت وأصبح لها زوج وبيت آخر.. عاش حياة الغريب وسط ذويه، يعض على أسنانه من الفراق، أصبحت تقدم زوجها وأولادها ونفسها عليه، لكنه لم يخلعها ثوب ذكريات الماضي في خاطره كلما نظر إليها.. باح وجدانه بالذكريات ورآها شقيقته الصغرى حبه الأول في هذه الحياة، مرت السنوات ونقص كل شيء إلا حبه لها، كانت أسراب الأشواق كل يوم تطير إليها، إما تليفونيا أو زيارات أو السؤال عنها.. وصور الطفولة لها ورد يومي من وقته يعيش فيها زمنه الحالي.. أما روحه مازالت معها فوق الطائرة ...
في إحدى أيام الشتاء الممطرة، كانت تعبر الطريق، شاء القدر أن تصدمها سيارة لتتحرر روحها من مادية الجسد إلى الحياة الحقيقية تاركة العالم كله لرحلة أكبر وأطول...وقفت الحياة عنده وامتطي جواد قلمه وظل يكتب عنها.....تروضه الآهات والدموع كيفما شاءت.... يحبو في دروب حياته بزمن ثقيل وبطئ.. يملأ أيامه المملة بالأحداث والحديث عنها...يكتب عنها لحاضر نفسه .. بعدما تلبدت سماء وجدانه بغيوم الفراق ؛ وحجبت شمس أمل اللقاء في الحياة الدنيا؛ فباتت ملامح الحياة أمامه باهتة، صامتة، عطنة، مالحة، خشنة، لا حياة فيها... استيقظ من غفلته قابضا يده على حبل الطائرة، وعلى صيحات ابنه وشقيقته الصغرى..أسرع ونظر من شرفته وجد ابنه وشقيقته الصغرى يطلقان حبل العنان لطائراتهما مد يده إلى السماء وبسط كفه ليطلق حبل العنان لروحها....
وتستمر الحياة...
مازلت أكتب لكم وسأظل بإذن الله تعالى أكتب لكم
سياده العزومي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق