الأربعاء، 10 يونيو 2020

عطاء بن أبي رباح (ما لي الى مخلوق حاجة )وحواره مع عبد الملك بن مروان 
ـــــــ د. صالح العطوان الحيالي.العراق.1-6-2020
أبو محمد عطاء بن أبي رباح أسلم بن صفوان (27 هـ-114 هـ) هو فقيه وعالم حديث، وهو من الفقهاء والتابعين في القرن الأول والثاني الهجري
أخذ عن أم المؤمنين عائشة وأبو هريرة وأم سلمة وأم هانئ وابن عباس وعبد الله بن عمرو وابن عمر وجابر وابن الزبير ومعاوية وأبي سعيد وعدة من الصحابة ومن التابعين
حدث عن عبيد بن عمير ومجاهد وعروة وابن الحنفية وغيرهم كثير. وأخذ عنه الأوزاعي وابن جريج وأبو حنيفة والليث. وحدث عنه مجاهد بن جبر، وأبو إسحاق السبيعي، وعمرو بن دينار، وقتادة، وعمرو بن شعيب، والأعمش، وأيوب السختياني، ويحيى بن أبي كثير، وكثير غيرهم
ليس العلم باتساع الرواية ولا حفظ المتون ولا معرفة أقوال المذاهب، بل حقيقة العلم خشية الله تعالى التي توجب على العالم القيام بالحق من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر من غير احتشام ولا خوف أو رهبة من سلطان؛ لأن خشية الله إذا وقرت في القلوب أورثت النفس الإنسانية عزيمة ومضاء حتى لو وقفت أمامها الجبال أزالتها، {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، فالذين يخشون الله من عباده هم العلماء حقيقة وإن لم تكن لهم رواية ولا حفظوا المتون ولا اطلعوا على أقوال المذاهب التي يتحلى بها أشباه العلماء.
  هذا التابعِيّ الجليل كان مُعاصِرًا لِلخليفة الأمَوِيّ   عبد الملك بن مروان، الذي يقول عنه المؤرِّخون: إنّهُ خليفة المسلمين، وأعْظمُ مُلوك الأرض .
  عبد الملِك بن مروان يُؤدِّي فريضة الحجّ، وهو في بيت الله الحرام, حاسِرَ الرأس، حافِيَ القدَمَيْن، ليس عليه إلا إزارُهُ، ورداء، شأنُهُ كَشَأن أيّ حاجٍّ من المسلمين، ومن خلْفِهِ ولداهُ، وهما غلامان كَطَلْعَة البدْر بهاءً، وكأكْمام الورْد نظارةً وطيبًا، وما إن انتهى خليفة المسلمين، وأعظمُ مُلوك الأرض من الطَّواف حول البيت العتيق، حتى مالَ على رجلٍ من خاصَّتِهِ، وقال:( أيْن صاحبكم؟ فقال: إنَّهُ هناك قائمٌ يُصَلِّي، فاتَّجَهَ الخليفة، ومن ورائهِ ولداهُ إلى حيثُ أُشير إليه، وهمَّ رِجال الحاشِيَة أنْ يتْبعوا الخليفةَ لِيَفْتحوا له الطريق، ويدْفَعُوا عنه أذى الزِّحام، فثنّاهم، وقال: هذا مقامٌ يسْتوي فيه الملوك والسُّوقَةُ, يسْتوي فيه الحاكمُ والمحكوم، والقويّ والضعيف، والفقير والغنيّ .
 -والآن الإنسان إذا ذهَبَ إلى الحجّ, وكان من أغنى أغنياء الأرض، وجلسَ في أفْخَر فندقٍ هناك ، فلا يستطيعُ أن يطوفَ مع عامَّة المسلمين، شأْنُ الحجّ وخصائصُهُ تقتضي أن يكون الحُجَّاج سَواسِيَةً مهما علا بعضهم على بعض- .
 يقول هذا الخليفة: ولا يفْضُل فيه أحدٌ على أحد إلا بالقَبُول والتَّقوى، ورُبّ أشْعَثَ أغبر قَبِلَ على الله فتقبَّلَهُ بِمَا لمْ يتقبَّل به المُلوك، ورُبَّ أشْعثَ أغبر قدم على الله في بيته الحرام، فقَبِلَهُ اللهُ بما لمْ يتقبّل به الملوك .
 ثمَّ مضى هذا الخليفة نحو هذا الرجل، فوجدَهُ لا يزال في صلاته، غارقًا في ركوعِهِ وسُجودهِ، والناس جُلوسٌ وراءهُ، وعن يمينه وشمالهِ، فجلسَ الخليفة حيث انتهى به المجلس، وجلس معه ولداهُ، وطفِقَ الفتيان القرشِيَّان يتأمَّلان ذلك الرجل الذي قصَدَهُ أمير المؤمنين، وجلسَ مع عامَّة الناس ينتظرُ فراغهُ من صلاتهِ, مَن هو هذا الرَّجل؟ قال: فإذا به شَيْخٌ حبَشِيّ، أسْوَدُ البشَرَة، مُفَلْفَلُ الشَّعْر، أفْطَسُ الأنف، إذا جلسَ بدا كالغُراب الأسْوَد, ولمَّا انتهى الرجل من صلاتهِ مال بِشِقِّه على الجِهَةِ التي فيها الخليفة، فحيَّاهُ سليمان بن عبد الملِك، فرَدَّ التَّحِيَّة بِمِثلها، وهنا أقْبَلَ عليه الخليفة، وجعلَ يسْألهُ عن مناسِك الحجّ, مَنْسَكًا منْسكًا، وهو يفيضُ بالإجابة عن كلّ مسْألة، ويُفصِّلُ القَوْل فيها تفْصيلاً، لا يدَعُ سبيلاً لِمُسْتزيد، ويُسْنِدُ كلَّ قَوْلٍ يقولهُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ولمّا انتهى الخليفة من مُساءلَتِهِ جزَّاهُ خَيْرًا؛ أيْ قال له: جزاكَ الله خَيْرًا، وقال لِوَلدَيْه : قومَا ‍فَقامَا، وقام الثلاثة نحوَ المسْعى، وفيما هم في طريقهم إلى المسْعى بين الصَّفا والمروَة سمِعَ الفتَيان من يقول: يا معْشَرَ المسْلمين, لا يُفْتِي الناسَ في هذا المقام إلا عطاء بن أبي رباح، فإن لمْ يوجَد فَعَبْدُ الله بن أبي نجِيح، فالْتَفَتَ أحدُ الغلامَيْن إلى أبيهِ، وقال: كيف يأْمُر عامِلُ أمير المؤمنين الناس بِأَن لا يسْتفْتُوا أحدًا إلا عطاء بن أبي رباح وصاحِبِهِ، ثمَّ جئنَا نحن نسْتفتي هذا الرجل الذي لم يأْبَه للخليفة، ولمْ يُوَفِّهِ حقَّهُ من التَّعظيم؟‍ .
 -الآن اسْتمعوا ما قاله عبد الملك- فقال عبد الملك لِوَلدِهِ: هذا الذي رأيْتَهُ يا بنيّ، ورأيْتَ ذُلَّنا بين يدَيْه هو عَطاء بن أبي رباح, هو نفسهُ صاحبُ الفتيا في المسجد الحرام, ووارِث عبد الله بن عبَّاس, -يعني خليفة عبد الله بن عبَّاس، الصحابيّ الجليل الذي أوتِيَ فهْمًا في القرآن الكريم، وكان مَوْسوعةً في كلّ العُلوم- ثمَّ أرْدَفَ يقول: يا بنيّ، تَعَلّم العِلْم، فَبِالعِلْم يشْرُفُ الوضيع، وينْبُهُ الخامِل ، ويَعْلو الأرِقَّاء على مراتب المُلوك) .
 ولذلك حينما قِيل: رُتْبةُ العِلْم أعلى الرُّتَب، ليس في هذا مُبالغة إطلاقًا، فرُتْبةُ العِلْم أعلى الرُّتَب، تعلَّموا العِلم، فإنْ كنتُم سادةً فُقْتُم، أيْ تَفَوَّقْتُم، وإن كنتم وسطًا سُدْتُم، أيْ أصبحْتُم سادةً، وإن كنتم سُوقةً عِشْتُم، أيْ عِشْتُم ‍بالعلم .
وفي سيرة العلماء المتقدمين ما يشهد لذلك؛ أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء قال: (قال الأصمعي: دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك، وهو جالس على السرير، وحوله الأشراف، وذلك بمكة في وقت حجه في خلافته، فلما بصر به عبد الملك قام إليه فسلم عليه وأجلسه معه على السرير وقعد بين يديه وقال: يا أبا محمد: حاجتك؟ قال: يا أمير المؤمنين، اتق الله في حرم الله وحرم رسوله؛ فتعاهده بالعمارة، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار؛ فإنك بهم جلست هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور؛ فإنهم حصن المسلمين، وتفقد أمور المسلمين؛ فإنك وحدك المسئول عنهم، واتق الله فيمن على بابك؛ فلا تغفل عنهم ولا تغلق دونهم بابك، فقال له: أفعل، ثم نهض وقام، فقبض عليه عبد الملك- أي أمسك بيده- وقال: يا أبا محمد، إنما سألتنا حوائج غيرك، وقد قضيناها، فما حاجتك؟ قال: ما لي إلى مخلوق حاجة، ثم خرج، فقال عبد الملك: هذا وأبيك الشرف، هذا وأبيك السؤدد).
فانظر إلى هذه المحاورة التي جرت بين عبد الملك وهو إذ ذاك أمير المؤمنين عربي من قريش، وبين عطاء بن أبي رباح وهو مولى من الموالي وكَانَ أسود شَدِيد السوَاد لَيْسَ فِي رَأسه شعر إِلَّا شَعرَات فِي مقدم رَأسه، كيف يخاطب أمير المؤمنين وهو في حضرة علية القوم من الأشراف ورغم أن أمير المؤمنين أكرمه وأعزه أمام الناس في هذا المجلس فقام إليه وهو أمير المؤمنين وعطاء مولى من الموالي وأجلسه على سريره بحضرة الأشراف وجلس أمير المؤمنين بين يديه، وقال له: حاجتك؟ أي ماذا تطلب حتى نقضيه لك، لكن هذا الإكرام والتبجيل أمام الناس لم يحمل عطاء على المداهنة ولم يمنعه من قول كلمة الحق فأوصاه بوصايا قل أن تجد من يجهر ولا بجزء منها أمام الناس؛ فأمره بتقوى الله في حرم الله وحرم رسوله بأن يتعدهما بالعمارة ويكف عنهما الإلحاد، وأمره بتقوى الله في أولاد المهاجرين والأنصار فيعاملهم المعاملة التي تليق بأمثالهم ويخرج لهم حقهم من بيت المال ولا يتأخر عنهم في ذلك، وذكّره بفضل آبائهم عليه فإنه ما جلس في مكانه إلا بهم، وأمره بتقوى الله في أهل الثغور فهم المجاهدون الذين يحمون البلاد من عدوان المعتدين، وأمره بتفقد أمور المسلمين وذكره أنه وحده المسئول عنهم دون غيره من الولاة، وأمره بتقوى الله في من يقف على بابه لشكواه أو لقضاء مصالحه فلا يغلق بابه دونهم فيحتجب عنهم ولا يغفل عنهم، فإن هذا من حقوق الرعية على ولاتها.
ولما رأى أنه أدى ما عليه ووعده أمير المؤمنين بالتنفيذ بقوله: (أفعل)، رأى أن مهمته قد انتهت وأنه لا حاجة له في الجلوس بعد تحقق الغرض فقام من مجلسه ونهض ليغادر المكان، فأمسك به وقال له: (يا أبا محمد، إنما سألتنا حوائج غيرك، وقد قضيناها، فما حاجتك؟) قال: (ما لي إلى مخلوق حاجة) ثم خرج، فهو لم يدخل عليه ليسامره ولا ليستمتع بمجلسه ولم يدخل عليه لحاجة نفسه، ولم يستغل إقبال أمير المؤمنين عليه ليطلب بعض الامتيازات له أو لأحد من أهله أو أصحابه، بل قال بكل عزة وإباء: (ما لي إلى مخلوق حاجة).
وبهذه القوة في الحق والاستعلاء على مطامع الدنيا كانت لهؤلاء العلماء العزة والشرف والسؤدد، فمتى تعود هذه الأوضاع
توفي في مكة في عام 114 هـ. قال الهيثم وأبو المليح الرقي وأحمد وأبو عمر الضرير وغيرهم مات عطاء سنة أربع عشرة ومئة وقال يحيى القطان سنة أربع أو خمس عشرة وقال ابن جريج وابن عيينة والواقدي وأبو نعيم والفلاس سنة خمس عشرة ومئة وقال الواقدي عاش ثمانيا وثمانين سنة وقال شباب مات سنة سبع عشرة فهذا خطأ وابن جريج وابن عيينة أعلم بذلك وقد كان بمكة مع عطاء من أئمة التابعين مجاهد وطاووس وعبيد بن عمير الليثي وابن أبي مليكة وعمرو بن دينار وأبو الزبير المكي وآخرون
المصادر 
1- سيىر اعلام النبلاء للذهبي 
2- البداية والنهاية لابن كثير
3- الطبقات لابن سعد
4- تهذيب الكمال في اسماء الرجال
5- تاريخ مدينىة دمشق
6- تحفة الاشراف بمعرفة الاطراف
7- تاريخ مكة المكرمة والمسجد الحرام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق