توجيهات الصديق رضي الله عنه الى قادة الوية مقاتلة الردة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي -العراق- 22-8-2019
اتخذ خليفة المسلمين ابو بكر رضي الله عنه قرية (ذي القصة) مركز انطلاق أو قاعدة تحرك للجيوش المنظمة التي ستقوم بالتحرك إلى مواطن الردة للقضاء عليها، وتنبئ خطة الصديق عن عبقرية فذة، وخبرة جغرافية دقيقة، ومن خلال تقسيم الألوية وتحديد المواقع يتضح أن الصديق كان جغرافياً دقيقاً خبيراً بالتضاريس، والتجمعات البشرية، وخطوط مواصلات جزيرة العرب، فكأن الجزيرة العربية صوّرت مجسم واضح نصب عينيه في غرفة عمليات مجهزة بأحدث وسائل التقنية، فمن يتمعَّن تسيير الجيوش ووجهه كلِّ منها، واجتماعها بعد تفرُّقها، وتفرقها لتجتمع ثانية، يرى تغطية سليمة رائعة صحيحة مثالية لجميع أرجاء الجزيرة، مع دقة في الاتصال مع هذه الجيوش، فأبو بكر في كل ساعة يعلم أين مواقع الجيوش ويعلم دقائق أمورها وتحركاتها، وما حققت، وما عليها في غد من واجبات، والمراسلات دقيقة وسريعة، تنقل أخبار الجبهات إلى مقرِّ القيادة في المدينة حيث الصديق، وكان على صلة مستمرة مع جيوشه كلها، وبرز من المراسلين العسكريين مابين الجبهات وبين مقرِّ القيادة: أبو خيثمة النَّجَّاري الأنصاري، وسلمة بن سلامة، وأبو برزة الأسلمي، وسلمة بن وقش.
و ما أن استلم الصديق رضي الله عنه القيادة حتى تبين أنه رجل على قدر كبير من اتخاذ المواقف الحازمة؛ فقد اتخذ موقفاً صلباً ضد أولئك الذين تهاونوا أو ترددوا في بعث أسامة، وضد أولئك العرب المرتدين الذين فرقوا بين أركان الإسلام، وكذلك فإنه قرر فتح جبهة العراق ثم الشام، وخرج من حدود شبه جزيرة العرب ليسجل العرب أمجاداً وعزة وكرامة.
وقد شكل قراره هذا منعطفاً تاريخياً في حياة العرب إلى يومنا هذا. أهذا الرجل الوديع اللطيف الذي حمل جسماً نحيفاً، تخرج منه هذه القرارات وهذه المواقف الحازمة؟، إن أحداً لن يصدق بهذا سوى الذين عرفوه عن كثب، وخبروه عن تجربة. ومما زاد في نجاح حزمه شجاعته التي كان يتصف بها؛ فقد قاد وحده معارك ذي القصة والربذة. وقد شهد بهذه الشجاعة علي ابن أبي طالب. وإذ قلنا بأنه صاحب العقل والحكمة؛ فإنما نعني من ذلك الرجل الذي أعلن عن موت الرسول صلى الله عليه وسلم حين وجل عمر والناس، وغابوا عن وعيهم، وذلك الرجل الذي أعلن عن خلافة عمر من بعده.
من أركان القيادة الأساسية ومن مقوّمات الشخصية العسكرية العلم؛ فقد كان أبو بكر مثقفاً عالماً بزّ الصحابة، واعترفوا له بهذا الفضل، ورجعوا إليه في كل مسألة غامضة، كما كان على اطلاع واسع بالحروب، وبالخبرة القتالية، ويظهر ذلك من تعليماته القتالية لقادة جيوشه، ومن حسن تنفيذه وتوجيهه الجيوش وقيادتها على المستويين التكتيكي والإستراتيجي، والمناورة بها على جبهات واسعة وبعيدة، وتخطيطه لها في قتال التلاقي ولاسيما في العراق.
وكانت الجيوش التي بعثها الصديق متماسكة وهي إحدى إنجازات الدولة المهمة، إذ جمعت تلك الجيوش بين مهارة القيادة وبراعة التنظيم، فضلاً عن الخبرة في القتال صهرتها الأعمال العسكرية في حركة السرايا والغزوات التي تعدى بعضها شبه الجزيرة في زمن النبي، فقد كان الجهاز العسكري لدولة الصديق متفوقاً على كل القوى العسكرية في الجزيرة، وكان القائد العام لهذه الجيوش سيف الله المسلول خالد بن الوليد صاحب العبقرية الفذة في حروب الردة والفتوحات الإسلامية.
كان هذا التوزيع للجيوش وفق خطة إستراتيجية مهمة مفادها أن المرتدين لايزالون متفرقين كلٌّ في بلده ولم يحصل منهم تحزب ضد المسلمين بالنسبة للقبائل الكبيرة المتباعدة في المكان أولاً؛ لأن الوقت لم يكن كافياً للقيام بعمل كهذا، حيث لم يمض على ارتدادهم إلا ما يقرب من ثلاثة شهور، وثانياً لأنهم لم يدركوا خطر المسلمين عليهم وأنهم باستطاعتهم أن يكتسحوهم جميعاً في شهور معدودة، ولذلك أراد الصديق أن يعاجلهم بضربات مفاجئة تقضي على شوكتهم وقوتهم قبل أن يجتمعوا في نصرة باطلهم، فعاجلهم قبل استفحال فتنتهم، ولم يترك لهم فرصة يطلون منها برؤوسهم، ويمدون ألسنتهم يلذعون بها الجسم الإسلامي وبذلك طبق الحكمة القائلة:
لا تقطَعَنْ ذنب الأفعى وترسلها ... إن كنت شهماً فاتبع رأسها الذنبا
فقد أدرك حجم الحدث وأبعاده، ومدى خطورته، وعلم أنه إن لم يفعل كذلك فسيوشك الجمر أن ينتفض من تحت الرماد فيحرق الأخضر واليابس كما قال الأول:
أرى تحت الرماد وميض نار ... ويوشك أن يكون له ضرام
فقد كان السياسي الماهر والعسكري المحنَّك الذي يقدر الأمور ويضع لها الخطط المباشرة.
انطلقت الألوية التي عقدها الصديق ترفرف عليها أعلام التوحيد مصحوبة بدعوات خالصة من قلوب تعظم المولى عز وجل وتشربت معاني الإيمان ومن حناجر لم تلهج إلا بذكر الله تعالى، فاستجاب الله جل وعلا هذه الدعوات النقية، فأنزل عليهم نصره وأعلى بهم كلمته وحمى بهم دينه حتى دانت جزيرة العرب للإسلام في شهور معدودة.
وقد كتب أبو بكر الصديق كتاباً واحداً إلى قبائل العرب من المرتدين والمتمردين، فدعاهم إلى العودة إلى الإسلام وتطبيقه كاملاً كما جاء من عند الله تعالى ثم حذرهم من سوء العاقبة فيما لو ظلوا على ما هم عليه في الدنيا والآخرة، وكان قوياً في إنذارهم، وهذا هو المناسب لشدة انحرافهم وقوة تصلبهم في التمسك بباطلهم، فكان لابد من إنذار شديد يتبعه عمل جريء قوي لإزالة الطغيان الذي عشَّش في أفكار زعماء تلك القبائل والعصبية العمياء التي سيطرت على أفكار أتباعهم.
وهذا نص الخطاب الذي أرسله الصديق إلى من ثبتوا على الإسلام ومن ارتدوا عنه:
"بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر خليفة رسول الله إلى من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة أقام على إسلامه أو رجع عنه. سلام على من اتبع الهدى، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، نُقرُّ بما جاء به، ونكفِّر من أبى ونجاهده. أما بعد، فإن الله تعالى أرسل محمداً بالحق من عنده إلى خلقه بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين. فهدى الله بالحق من أجاب إليه، وضرب رسول الله بإذنه من أدبر عنه حتى صار إلى الإسلام طوْعاً وكَرهاً. ثم توفى الله رسوله وقد نفذ لأمر الله، ونصح لأمته، وقضى الذي عليه، وكان الله قد بين له ذلك ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل، قال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [سورة الزمر، آية:30]، وقال: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [سورة الأنبياء، آية:34]، وقال للمؤمنين :{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [سورة آل عمران، آية:144]، فمن كان إنما يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله وحده لا شريك له فإن الله له بالمرصاد، حي قيوم لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ لأمره، منتقم من عدوه.. وإني أوصيكم بتقوى الله وحظكم ونصيبكم من الله، وما جاءكم به نبيكم، وأن تهتدوا بهُداه، وأن تعتصموا بدين الله، فإن كل من لم يهده الله ضال، وكل من يعافه مُبْتلى، وكل من لم يُعنه الله مخذول، فمن هداه الله كان مهتدياً ومن أضله كان ضالاً، قال الله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [سورة الكهف، آية:17]. ولم يقبل منه في الدنيا عمل حتى يقربه، ولم يقبل منه في الآخرة صرف ولا عدل. وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقرّ بالإسلام وعمل به اغتراراً بالله، وجهالة بأمره، وإجابة للشيطان، قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [سورة الكهف، آية:50]، وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [سورة فاطر، آية:6]، وإني بعثت إليكم فلاناً في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته ألا يقاتل أحداً ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن استجاب له وأقر وكفّ وعمل صالحاً قبل منه وأعانه عليه، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك، ثم لا يُبقي على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنار، ويقتلهم كل قتلة، وأن يسبي النساء والذراري، ولا يقبل من أحد إلا سلام، فمن تبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يُعجز الله. وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم، والداعية الأذان: فإذا أذن المسلمون فأذَّنوا كُفُّوا عنهم، وإن لم يؤذّنوا عاجلوهم،وإن أذَّنوا اسألوهم ما عليهم، فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقرّوا قبل منهم، وحملهم على ما ينبغي لهم"...
الأحد، 25 أغسطس 2019
توجيهات الصديق رضي الله عنه / بقلم د.صالح العطوان الحيالي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق