الاثنين، 2 سبتمبر 2019

رجال خلدهم التاريخ " المثنى بن حارثة الشيباني " .. بقلم .. د. صالح العطوان الحيالي ..


رجال خلدهم التاريخ " المثنى بن حارثة الشيباني "
ــــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي - العراق- 27-8-2019
المُثَنَّى بنُ حَارثة بن سَلَمَة بن ضَمْضَم بن سعد بن مرَّة بن ذُهْل بن شيبان بن ثعلبة بن عُكَابة بن صَعْب بن علي بن بكر بن وائل الربعي الشيباني.
من الأبطال المشهورين الذين انتصروا ولم يُغيِّرهم النصر ولم يبطرهم، بل ظلوا على جهادهم وتواضعهم حتى لاقوا وجه ربهم.
ومن الفرسان الذين بدأوا بقتال الفرس، وشجعوا عليه ، وخاض عدة معارك، واستشهد إثر جراح في جسمه قبل معركة القادسية.
ولد في قبيلة بني شيبان ولا تُعرف سنة ولادته، وقبيلة بني شيبان كانت تسكن على حدود العراق بين البحرين وهيت، وتجاور الفرس، ولذلك كان يعرف الفرس عن قرب فلا عجب أن شجع المسلمين على قتالهم.
سمعت قبيلتُه برسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثته ، فأرسلت وفداً ، وكان المثنى من ضمن الوفد، فسمعوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجاوروه ، وأعجبوا بما يدعو إليه ، لكنهم اعتذروا عن نُصرته وإتّباعه لمجاورتهم للفرس وللعهد الذي بينهم أن لا يُحدِثوا حدثاً ولا يُؤوُون محدثاً ، ورجعوا إلى بلادهم، ثم عندما انتشر الإسلامً ، وجاءت الوفود ، ودخل الناس في الإسلام، أسلم المثنى في ذلك الوقت في السنة التاسعة للهجرة.
وعند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ثبت على إسلامه ، وحارب المرتدين من قومه مع الجيش الذي أرسله أبو بكر الصديق رضي الله عنه بقيادة العلاء بن الحضرمي، وبعد حروب الرِّدة نشر جنوده على طول الحدود لمنع المرتدين من الهرب إلى الفرس ، بل أصبح يُغير على الفرس مع قبيلته بني شيبان ويغنم منهم، ويستولي على بعض المناطق التي تقع تحت حمايتهم.
وعندما وصلت الأخبار إلى أبي بكر ، أُُعجب به وأثنى عليه، ثم أتى إلى المدينة وشرح لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ضرورة محاربة الفرس لحماية المسلمين والبلاد الإسلامية من طمع الفرس وتسلطهم ، وهوَّن له من شأن الفرس، وقال لأبي بكر:« أمِّرني على من قِبلي ،أقاتل من يليني من أهل فارس ، وأكفك ناحيتي» فأذن له أبو بكر رضي الله عنه
هو الذي تزوّج سعدُ بن أَبي وقاص امرأَته سَلْمى بنت جعفر. وهي التي قالت لسعد بالقادسية حين رأَت من المسلمين جَولةً فقالت: وَامُثَنَّياه، ولا مُثَنىَّ للمسلمين اليوم! فلطمها سعد، فقالت: أَغَيْرَةً وجُبْنًا؟! فذهبت مثلًا
كان إسلامه وقدُومه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنة تسع، ويقال سنة عشر
(قال ابْنُ حِبَّانَ: له صحبة)) الإصابة في تمييز الصحابة. ((من حديث الأصمعي ـ عن سلمة بن بلال، عن أبي رجاء العطارديّ، قال‏:‏ كتب أبو بكر الصّديق رضي الله عنه، إلى المثنّى بن حارثة: إني قد وليت خالد بن الوليد فكُنْ معه، وكان المثنّى بسواد الكوفة، فخرج إلى خالد فتلقاه بالنِّبَاج، وقدم معه البصرة، وذكر قصَّة طويلة.)) الاستيعاب في معرفة الأصحاب. ((لما عَرضَ رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم نفسه على القبائل، أَتى شيبان، فلقي معروف بن عمرو، والمثنى بن حارثة، فدعاهم. وسنذكر القصة في "معروق"، إِن شاء الله تعالى [[روى أَبان بن تَغْلب، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن علي بن أَبي طالب كرم الله وجهه قال: تلا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام/ 151] الآية على بني شيبان، وفيهم المثنى بن حارثة، ومفروق ابن عمرو، وهاني بن قبيصة، والنعمان بن شريك، فالتفت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إِلى أَبي بكر فقال: "بأَبي أَنت! ما وراء هؤلاء عون من قومهم، هَؤُلاءِ غرر الناس". فقال مفروق بن عمرو، وقد غلبهم لسانًا وجمالًا: والله ما هذا من كلام أَهل الأَرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه. وقال المثنى كلامًا نحو معناه، فتلا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}... [النحل/ 90] الآية، فقال مفروق: دعوتَ واللّهِ يا قرشي إِلَى مكارم الأَخلاق، وإِلى محاسن الأَفعال، وقد أَفك قوم كَذَّبوك وظاهروا عليك. وقال المثنى: قد سمعت مقالتك، واستحسنت قولك، وأَعجبني ما تكلمتَ به، ولكن علينا عهد، من كسرى لا نُحدِثُ حَدَثًا، ولا نُؤْوِي مُحْدِثًا ولعل هذا الأَمر الذي تدعونا إِليه مما يكرَهُه الملوك. فإِن أَردتَ أَن ننصرك ونمنعك مما يلي بلاد العرب فعلنا. فقال النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "مَا أَسَأْتُمْ إِذْ أَفْصَحْتُمْ بِالْصِّدْقِ، إِنَّهُ لاَ يَقُومُ بِدِينِ الله إِلاَّ مَنْ حَاطَهُ بِجَمِيعِ جَوَانِبِهِ". ثم نهض رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على يد أَبي بكر (قال الْمَرْزَبَانِيُّ: كان مخضرمًا، وهو الذي يقول:
سَأَلُوا البَقِيَّة وَالرِّمَاحُ تَنُوشُهُمْ شَرْقَى الأَسِنَّةِ والنُّحُورِ مِنَ الدَّمِ
فَتَرَكْتُ فِي نَقْع العَجَاجَة مِنْهُمُ جَزَرًا لِسَاغِبَةٍ وَنَسْرٍ
الإسلام دينٌ عظيمٌ، إذا اختاره الإنسان منهجًا لحياته كلها لا يعيش به وحسب بل ويعيش فيه بكيانه ووجدانه، فإن هذا الدين سيحوله إلى عملاق لا يخشى مخلوقًا خلقه الله!
وقصة شيخ شيبان، وصاحب حربها، المثنى بن حارثة الشيباني رضي الله عنه ، لهي قصة تجسد لنا معنى توحيد الله في الربوبية، فلا يكون الإنسان عبدًا إلا لله الواحد القهار، فهو الوحيد الذي يُخشى ويُعبد، لأنه الوحيد الذي خلق ورزق، فمن وحَّد الله في قلبه تمام التوحيد، علم يقينًا أن الله وحده هو مالك الكون بأسره، وأدرك بعد ذلك أن ما دون الله من الخلق لا يملك له نفعًا ولا ضرًا، وعند ذلك، يشرق نور العزة والسؤدد من بين قسمات وجهه المضيء بنور التوحيد.
والمثنى بن حارثة الشيباني هو صاحب حرب قبيلة شيبان التي كانت تعيش في أطراف العراق على تخوم إمبراطورية فارس العظيمة، وقد أسلم مع قومه سنة تسع للهجرة، أي في نهاية البعثة النبوية، وبعد إسلامه تحول مباشرة إلى قتال الفرس، فكان أول من قاتل الفرس من المسلمين، كان يغزو بمن معه من فرسان قبيلته بني شيبان إمبراطورية فارس الكبرى التي كانت تحتل العراق، فكان المثنى يحقق الانتصار تلو الانتصار في مواقعه مع الفرس، لتتطاير أخبار انتصاراته إلى عاصمة الخلافة في المدينة المنورة، فأخذ أبو بكر الصديق رضي الله عنه يتساءل عن اسم ذلك الفارس العربي الذي تأتيه أخبار انتصاراته تترًا، فقال الصديق رضي الله عنه لمن حوله: «من هذا الذي تأتينا أخبار وقائعه قبل أن نعرف نسبه؟»، فأجابه من معه: «هذا رجل غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، ولا ذليل العماد، إنه المثنى بن حارثة الشيباني»، بعد ذلك جاء المثنى بنفسه إلى الصديق رضي الله عنه يستأذنه بحرب الفرس بمن معه من أفراد قبيلته، فإذن له الصديق بذلك.
لا أعلم ما كان يدور في ذهن أبي بكرٍ الصديق عند مقابلته للمثنى الذي جاء يستأذنه في قتال الفرس، ولكنني لا أشك أن أبا بكر رأى في وجه المثنى في هذا اليوم ما لم يره في وجهه في مقابلة سابقة كانت قبل ذلك بسنين عدة في حضرة رسول الله ﷺ، يومها عرض رسول الله ﷺ على المثنى بن حارثة الشيباني عرضًا كان يمكن للمثنى من خلال قبوله أن يغير من تاريخ الأرض، كان يمكن للمثنى بن حارثة الشيباني أن يكون اسمه الآن المثنى بن حارثة الأنصاري، وأن يتحول اسم قبيلة بني شيبان إلى اسم سيردده التاريخ كثيرًا، الأنصار!
فبعد سنوات صعبة من الدعوة إلى الإسلام في مكة، أدرك رسول الله ﷺ أن قريشًا قد أغلقت عليه طرق الدعوة هناك، وبعد رحيل خديجة ﮋ ورحيل عمه أبي طالب الذي كان ينصره ويحميه من بطش قريش، ازداد إيذاء مشركي مكة للرسول ﷺ ومن معه من المسلمين، فقرر الهجرة من مكة، فشرع الرسول ﷺ بتطبيق استراتيجية بديلة، وهي البحث عن قبيلة من قبائل العرب لكي يهاجر إليها المسلمون، فصار الرسول ﷺ يدعو سرًا وفود الحجاج التي كانت تأتي لمكة لزيارة البيت، يعاونه في ذلك صديقه ورفيق دربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقد كان الصديق رضي الله عنه نسّابة للعرب يشار إليه بالبنان في معرفته بأنساب القبائل العربية، ويعرف بطون العرب وأحسابهم، فكان اختيار الصديق لهذه المهمة اختيارًا موفقًا، فكان رضي الله عنه يختار أقوى القبائل وأمنعها لكي يعرض عليهم رسالة صاحبه محمد ﷺ، فاختيار القبيلة التي ستستقبل آخر أنبياء الأرض ليس بالأمر السهل، فكان أبو بكر يتحرى الحذر والدقة في اختياره. وبينما أبو بكر يتجول بين مجالس الحجاج، وجد مجلسًا تظهر عليه مظاهر السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر فسلم عليهم ثم سألهم: ممن القوم؟ فقالوا: من شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله ﷺ وقال: بأبي وأمي، هؤلاء غرر في قومهم، وفيهم مفروق بن عمرو وهانئ بن قبيصة ومثنى بن حارثة والنعمان بن شريك، فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لنزيد على الألف، ولن تغلب الألف من قلة. فقال أبو بكر: كيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق: علينا الجد والجهد ولكل قوم حد. فقال أبو بكر: وكيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبا حين نلقى، وإنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا مرة ويديل علينا مرة أخرى. عندها نظر مفروق إلى أبي بكر وقد اعتقد أنه ذلك الرجل القرشي الذي يقول أنه نبي، وقد كانت العرب تتناقل أخبار رسول الله ﷺ، فقال لأبي بكر: لعلك أخو قريش؟ )أي هل أنت ذلك القرشي الذي تدعي النبوة؟( فقال أبو بكر: أو قد بلغكم أنه رسول الله فها هو ذا. فقال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك، فإلام تدعون إليه يا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله ﷺ فقال: أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله ﷺ وإلى أن تؤووني وتنصروني، فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد.
فقال مفروق: وإلام تدعو إليه أيضا يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا}، إلى قوله: {ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} [الأنعام: 151-153]. فقال له مفروق: وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فو الله ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه. فتلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} [النحل: 90]
فقال مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك. ثم قال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا. فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر لوهن في الرأي وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا، ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر. وكأنه أحب أن يشرك في الكلام المثنى بن حارثة فقال: وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا. عندها قال المثنى: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا واتباعنا إياك في مجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر، وإنا إنما نزلنا بين صريان اليمامة والسماوة. فقال رسول الله ﷺ: ما هذان الصريان؟ فقال أنهار كسرى ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول، وأما ما كان من مياه العرب فذنبه مغفور وعذره مقبول، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى، لا نحدث حدثا ولا نؤوي محدثا. وإني أرى أن هذا الأمر مما تكرهه الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا. فقال رسول الله ﷺ: ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم في الصدق، فإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟ فقال النعمان بن شريك: اللهم وإن ذلك لك يا أخا قريش. فتلا رسول الله ﷺ : {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا})الأحزاب: 45، 46(
سبحان الله، يا له من اختيار ذلك الاختيار الذي اختاره المثنى، لقد أدرك زعماء قبيلة بني شيبان روعة حديث رسول الله ﷺ وسمو رسالة الإسلام، إلى أنهم تركوا الاختيار النهائي لوزير دفاعهم وصاحب حربهم المثنى بن حارثة، فكان الاختيار، فالحياة كلها عبارة عن اختيارات، اختيار قد يرفعك إلى عنان السماء، واختيار قد يطيح بك إلى سابع أرض، واختيار بين ذلك وذلك، فكان اختيار المثنى الذي حرم قبيلة بني شيبان فضلًا على سائر العرب، لقد عرض رسول الله ﷺ على المثنى أن يهاجر إليهم على أن يقوموا بنصرته، فاختار المثنى اختياره، كان هذا العرض هو نفسه العرض الذي عرضه الرسول ﷺ لاحقًا على قبيلتي الأوس والخزرج، أي أن الأنصار كانوا سيكونون من بني شيبان وليس من الأوس والخزرج لو كان المثنى قبل بعرض الرسول ﷺ! لقد عرض المثنى بأدب عربي جم على رسول الله ﷺ أن يحارب هو وقومه جميع العرب نصرة لدين الله، نصرة للإسلام ورسول الإسلام، غير أنه أدرك بعقله وحنكته التي صقلتها السنون أن هذا الرجل الذي أمامه إنما جاء بدين سوف يحاربه طغاة الأرض من مشرقها إلى مغربها لما يحمله هذا الدين من تهديد لعروشهم المقامة على أعناق الضعفاء والمظلومين، والمثنى كوزير للدفاع في قبيلته وبناءً على المعطيات العسكرية وامكانياته الاقتصادية يدرك أن جيشه والذي لم يتجاوز عدده الألف لا يستطيع أن يحارب إمبراطورية الفرس المتاخمة لحدود مضارب قبيلته والتي تنتشر جيوشها الجرارة المقدرة بالملايين في تلال آسيا وقفارها، والحقيقة أن اختيار المثنى بن حارثة الشيباني كان اختيارًا واقعيًا وعقلانيًا إلى أبعد الحدود، ولكن الشيء الذي لم يفقهه المثنى حينها، أن هذا الدين الذي جاء به هذا القرشي إنما هو دين لا يؤمن بالواقعية المبنية على أسس دنيوية محدودة.
وبعد اختيار المثنى جاء الدور على رسول الله ﷺ ليختار اختياره، لقد كان عرض المثنى عرضًا مغريًا بالفعل، فرسول الله ﷺ ومن معه من المسلمين مستضعفون في مكة، وها هم بنو شيبان وقبيلتهم العريقة والمنيعة كبرى قبائل بكر بن وائل وكبرى قبائل ربيعة العدنانية يعرضون على رسول الله ﷺ النصرة والموت من دونه أمام جميع قبائل الجزيرة العربية، فهل قبل رسول الله ﷺ هذا العرض المغري ولو حتى على أساس الاختيار المرحلي؟
لم يقبل رسول الله ﷺ هذا العرض المغري، مع العلم أنه كان بمقدوره أن يقبل به ولو بشكل مرحلي حتى يحمي من معه من المسلمين وحتى يبني دولته الناشئة، فالفرس كانوا مشغولين بحرب الرومان وقتها، واحتمال حربهم للمسلمين وخصوصًا في السنوات القليلة القادمة لهو احتمال ضعيف، إلا أن رسول الله ﷺ أراد أن يعلمنا درسًا لخصه لنا في كلمات معدودة:
)إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه(
فمن يعتقد أن بإمكانه أن ينتصر أو يعلو شأنه وهو بالأساس لا يفقه هذه القاعدة الجوهرية ناهيك أن يطبقها فهو واهم غارق في وهمه، فأحكام الدين وشريعته وأصوله لا تؤخذ فرادى تبعًا لأهواء المرء، بل تؤخذ بالجملة، وقبل أن تلوم المثنى رضي الله عنه على اختياره ذاك، اسأل نفسك سؤالًا تعرف إجابته أنت فقط من البشر، هل تقبل بكل ما شرعه الله لك؟ أم تراك تختار ما يناسبك من دين الله؟ هل تصوم من دون أن تصلي؟ أم تصلي وتصوم ولكنك تكذب في بعض الأحيان وتغش الناس وتأكل الحرام؟ أم تراك لا تصوم ولا تصلي وتعتقد أن طهارة قلبك تكفي لكي تنال الجنة؟ وإن كنت فتاة، هل تلبسين اللباس الشرعي أم تعتقدين أن الدين دين أخلاق فقط؟ إن دين الله دين شامل يشمل العبادات وطهارة القلب، فلا عبادة بدون قلب طاهر تكفي، ولا قلبًا طاهرًا بدون عبادة ينفع.
المثنى بن حارثة الشيباني، أدرك الإسلام وحقيقته بعد أن رسخ الإيمان في قلبه، فتخلى عن مخاوفه التي كانت في جاهليته، وزرع مكانها الإيمان بالله وحده، فأيقن أن النصر يأتي من الله وحده، وليس من عدة أو عتاد، فأخذ يغزو جيوش فارس ويلحق بها الهزيمة تلو الهزيمة، قبل أن يرسل الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه خالد بن الوليد رضي الله عنه ليتولى القيادة العامة للجيوش الإسلامية المجاهدة على الجناح الشرقي، ليتحول المثنى بكل نفس راضية إلى جندي في جيش خالد بن الوليد رضي الله عنه، وبعد ازدياد المخاطر الرومانية في جبهة الشام، قرر أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن يبعث بالقائد خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى الجبهة الغربية في بلاد الشام، فترك خالد رضي الله عنه قيادة الجيش الإسلامي في العراق تحت إمرة المثنى، فخاض المثنى عدة معارك أشهرها معركة بابل أواخر ربيع الأول عام 13هجري، ففي ذلك العام قام كسرى الفرس الجديد شهربراز بن أردشير بتوجيه جيش كبير لقتال المثنى بقيادة هرمز جاذويه، فخرج له المثنى من الحيرة وأقام ببابل، وكتب كسرى شهربراز إلى المثنى كتابا‏ أراد به كعادة الفرس المجوس احتقار العرب، جاء فيه: ‏«‏إني قد بعثت إليكم جندًا من وحش أهل فارس إنما هم رعاء الدجاج والخنازير»‏‏ فكتب إليه الفارس العربي البطل المثنى‏ رسالة تفيض منها روح العزة الإسلامية:‏
‏«من المثنى بن حارثة الشيباني إلى شهربراز بن أردشير،
إنما أنت أحد رجلين؛ إما باغٍ فذلك شر لك وخير لنا،
وإما كاذبٌ فأعظم الكاذبين فضيحة عند الله وفي الناس الملوك،
وأما الذي يدلنا عليه الرأي فإنكم إنما اضطررتم إليهم،
فالحمد الله الذي رد كيدكم إلى رعاة الدجاج والخنازير»
فجزع أهل فارس من هذا الكتاب لما تحمله حروفه من عزة وكبرياء، واستهزأ بهم أن انتهى أمر إمبراطورية فارس الكبرى إلى رعاة الخنازير والدجاج، فتطير الفرس بتلك الرسالة، وتمنوا لو أنهم لم يحاولوا النيل من كرامة ذلك المجاهد العربي المسلم الذي لقنهم درسًا قاسيًا في معنى العزة والكرامة. وتقدم المجاهد البطل المثنى بن حارثة بكتائب النور الإسلامية نحو جحافل الفرس، ليتقابل الجيشان في بابل، وتدور هناك معركة طاحنة استبسل فيها المسلمون أمام سيل الهجمات الفارسية، فلجأ الفرس إلى فيل عملاق جلبوه من تخوم آسيا، وقادوه أمامهم ليخترق صفوف الجيش الإسلامي ويفرق الخيول التي كانت تخاف من الفيلة بطبيعتها، وفجأة، لاحظ المسلون فارسًا يقتحم صفوف الفرس كالصاعقة متجهًا نحو ذلك الفيل العملاق، إنه هو، إنه المجاهد البطل قائد المسلمين المثنى بن حارثة الشيباني يتقدم بنفسه نحو الفيل العملاق ليطعنه طعنة أطاحت به أرضًا فوق رؤوس مرازبة فارس، فكبر المسلمون تكبيرة هزت أرض بابل، وتدافعت أعاجم الفرس تريد الفرار من أرض المعركة، ولحق بهم المسلمون العرب يريدون رقابهم، فلم تكن إلا هزيمة الفرس، فقتلوهم قتلا ذريعا، وغنموا منهم غنائم عظيمة، وفر من استطاع منهم الفرار حتى انتهوا إلى المدائن عاصمة الإمبراطورية الساسانية، ومات شهربراز كسرى فارس بعد أن وصلته أخبار هزيمة جيشه أمام جيش المثنى، وقد قال الشاعر العربي الكبير الفرزدق فيما بعد شعرًا يحفظ به قصة بطولة المثنى في بابل:

وبيـت المثنـى قـاتل الفيـل عنـوة
ببـابل إذ فـي فارس ملـك بابل

وبعد بابل، حشد الفرس جيشًا كبيرًا للقضاء للانتقام من المسلمين، فعين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحابي الجليل أبا عبيد الثقفي رضي الله عنه كقائد عام على جيوش التحرير الإسلامي في العراق، فقبل المثنى كعادته بنفس طيبة أن يترك القيادة ليتحول إلى جندي في جيش التحرير، فاشتبك الجيشان في معركة الجسر عام 13 هـ، وقد خدع الفرس المسلمين بأن تركوهم يعبرون نهر الفرات فقطعوا الجِسر خَلفهم، فاستشهد أبو عبيد في ذلك اليوم ومعه ألف وثمانمائة بين قتيلٍ وغريق، وأصيب المثنى بجرح خطير، إلا أنه استطاع إنقاذ بقية الجيش الإسلامي جحافل الفرس، وتمكن من التمركز بعيدًا عن جيش الفرس.
وبعد الجسر، حشد الفرس جيشًا ضخمًا للقضاء على المسلمين نهائيًا، فهل هرب المثنى من الفرس، وهل أصبحت الهزيمة التي تعرض لها في معركة الجسر كابوسًا يطارده طيلة حياته ويمنعه من القيام بأي شيء؟ هل وهن المثنى ويأس من نصر الله؟
ما وهنا ما وهنا ... نحن أحفاد المثنى
في طريق المجد سرنا ... اسألوا التاريخ عنا
فتقدم القائد الإسلامي البطل المثنى بن حارثة الشيباني ليقود من تبقى من جيش المسلمين في العراق، وبالرغم من الآلام التي كان يشعر بها نتيجة لجرحه الذي أصيب به في معركة الجسر وتفاقم ذلك الجرح عليه، وتحرك بجيش المسلمين لمواجهة جيش الإمبراطورية الفارسية فالتقى الجيشان في معركة المصير، معركة البويب الخالدة، المعركة التي يشبهها المؤرخون بمعركة اليرموك من ناحية الأهمية، لأن البويب كانت أول وأهم معركة فاصلة بين المسلمين والفرس، فنصر الله المثنى ومن معه من أبطال الإسلام في هذه المعركة على جيوش فارس الجرارة، ليقتل العرب المسلمون في تلك المعركة فقط مائة ألف من جنود الاحتلال الفارسي، لذلك سميت معركة البويب بـ«يوم الأعشار»، لأنه وجد من المسلمين مائة رجل قتل كل منهم عشرة من الفرس، وقد كان انتصار المسلمين بالبويب يعد بمثابة بداية النهاية للإمبراطورية الساسانية الظالمة.
وبعد انتصار المثنى الكبير في البويب، سقط هذا المجاهد الإسلامي العظيم متأثرًا بجرح معركة الجسر، فاستشهد رحمه الله بعد أن رأى نبوءة رسول الله ﷺ تتحقق أمام عينيه، عندما أخبره قبل ذلك بسنوات بأن الله سيورثهم أرض الفرس، يومها كان المثنى يخاف من قوة الفرس، فلم يحسن الاختيار، أما الآن وبعد مرور كل تلك السنوات، فهم المثنى ما كان رسول الله ﷺ يعنيه، فاختار الاختيار الصحيح، فاختفى كل معنى للخوف من قلبه، ليكتب اسمه في سجل العظماء بحروف من ذهب، فالحياة عبارة عن اختيارات نختارها أنا وأنت، فإذا كنت قد اخترت اختيارًا خاطئًا في حياتك، فكن كالبطل المثنى بن حارثة الشيباني الذي صحح من مسار حياته، واختار الاختيار الصحيح في نهاية الأمر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق